عائشة أبو طالب تعرض برواق «دار الصويري»

>  عبد الله الشيخ *
تعرض حاليا الفنانة التشكيلية عائشة أبو طالب المجيداوي (مواليد آسفي 1972) برواق دار الصويري جديد أعمالها  الإبداعية المعاصرة إلى جانب الفنان الفرنسي المقتدر  لوسيان تيلر. فنانة عصامية  منشغلة بمصير الحركة  والأثر بكل أبعادهما البصرية الغنائية، وكأنها تكتب “شذرات” تقدم للعين البليغة دفعة  واحدة. إن لوحات هذه المبدعة التي راكمت عدة معارض تشكيلية  تحفل بالدلالات  والإيحاءات في شكل صورة بلورية  تخترق اليومي وتحوله إلى متخيل بصري  يتجاوز معايير ثورة الاتصال وآثارها على حياتنا المعاصرة.
كل تأويل لمتخيل هذه الفنانة (تعيش وتعمل بالصويرة) عبارة عن مغامرة تزج بنا  في عالم غريب  يعز عن الوصف والتفسير. ها نحن في عمق التجريب التشكيلي الذي تقتضيه التعبيرية التجريدية ككتابة بصرية جديدة تنفذ إلى عمق طبيعتنا الأولى  وتنهض كمقاومة من أجل حياة متدفقة وممتدة لونا وشكلا ورؤية.
تولي الفنانة عائشة أبو طالب أهمية قصوى للحركة  وتداعياتها  وآثارها على القماش، فهي  ملهمتها وفيض مخيلتها. إنها تجعلنا  نغير النظر في “البلاغة التشكيلية السائدة”، معيدين إدراكنا لأمورنا البديهية، وأشيائنا المألوفة. إنها أيضا، منسجمة مع ذاتها وعنف  متخيلها البصري، جاهدة لتقصي اللانهائي واللامرئي والمجرد.
الفنانة عائشة أبو طالب مجبولة على التأمل والتخييل. كل  لوحة تشكيلية محاولة لإدراك الحقيقة الغائبة في جو من الحيرة الفكرية. إنها  شبيهة بموسيقى  البوب التي لا تهمها إلا شدة  الانفعال أو الصدمة التي سيتلقاها المستمع من غير أن يشغل بما تعبر عنه الإيقاعات. أليس العمق ذاته هو  السطح وقد انثنى بتعبير نيتشه؟ إنه عمق منتج يجعل من عالم اللوحة ( استعمل دولوز عبارة “أن نجعل النص يمتد”).
خارج كل تنميط وبلاهة بصرية، تسعى الفنانة إلى رصد  حقيقتها الذاتية،  طالقة العنان لخيالها المجنح وفيض حواسها وهواجسها الوجودية (سبق لأبي حيان التوحيدي أن قال: “إنك  باق بحقيقتك” في مؤلفه “المقابسات”). فإبداعها البصري في خضم اليومي، منشغلة بمفارقاته وتجاربه. هكذا، يشعر المتلقي أنه ينظر إلى أعمال تشكيلية ممهورة بالحياة،  ففعل التشكيل لديها مرادف لفعل  الكتابة: تفكيـــر بالفعــــل، فكر شغال وحاضــــر « Pensée en acte ». أليس الأمر  معادلا مجازيا لفعل التلوين والتركيب المشهدي الحركي الذي تلعب  فيه المصادفة السعيدة دورا جوهريا. إن عالم هذه الفنانة الحالمة يجمع بين اليقظة والحلم، الرؤية والرؤيا، الظاهر والباطن. ينزع التشكيل لديها جهة المجهول لا المعلوم،  منسابا مع حركة اليد وبلاغتها، ومع ثقافة  العين وكشوفاتها. كأن بها  تعمل الفكر التشكيلي  في اليومي، وتقاربه بوعي بصري وقاد وثاقب، معتمدة في  ذلك على الإيماء والإشارة والتلميح، وفاتحة طرقا متشعبة بعيدا عن كل تشخيص وثوقي ورصد تسجيلي.  إن انشغالها بهذا الميثاق التعبيري التجريدي تأريخ للعابر والمنفلت خارج كل  المباشرة والبداهة. فيقظة لوحاتها الفنية صحوة ملؤها الرغبة في الحلم والارتقاء والسمو. في  شذرات لوحاتها التعبيرية  تحاول استقراء المعنى الخفي والحقيقة الغائية، علما بأن معنى الشيء ليس  هو حقيقته. فهي ترسم ما تحسه، وما يختمر في ذاكرتها، وما يستفز نظرها.
اللوحة حياة، والحياة  لوحة. لكنها حياة باطنية تتجاوز تدبير ماهية  “مجتمع الفرجة واللعب”،  مقاومة سيرورات إنتاج اللامعنى في زمننا المعاصر. الفعل التشكيلي لدى  هذه الفنانة ليس موقفا للالتزام أو عدمه (engagement ou désengagement)،  بل هو بحث متواصل عن المسافة والمساحة (dégagement) قصد سبك  تفكير بصري مغاير. أتذكر في هذا الصدد قول جان ماري دومنياك :” لا يتعلق  الأمر  بالتفكير أكثر، وإنما بالأحرى  بالتفكير  على نحو مغاير”. ألا نعيش في عصر “المغاير” (l’autrement)؟ يا لها من استجابة لحظية لما لا ينفك يتجدد ويتغير !
لنترك الأشياء كما هي في حياة  لوحات هذه الفنانة المبدعة. أشياء لا متناهية، لا بداية تحكمها ولا نهاية تحدها. فهي  من باب المتاهة البصرية التي لا هم لها سوى أصالة الأسلوب وتلقائيته. يخيل إلي وكأن الفنانة عائشة أبو طالب تشتغل في  مشروعها التشكيلي بعقلية أصحاب البصريات المتشبثين بعبارة “إرسال حزمة ضوئية”،مؤكدين على مسافة التبلور التي تسلط  الأضواء على المنبع وتنير مصدره. إننا  بصدد مشروع بالمعنى البصري “optique”  يضم في ثناياه المعنى الزمني الاستباقي والمعنى المكاني معا (projection). فهي  تعرض على أنظارنا فنا مرحا يقوي  مناعتنا ضد الأفكار الجاهزة،  لأنها بكل  بساطة تحس بالعين وتفكر  باليد. كان نيتشه يقول ما معناه “كلما رمت الاستراحة فتحت كتابا”  وأخال الفنانة تقول ما معناه: “كلما رمت الاستراحة رسمت لوحة”.
* (ناقد فني)

Related posts

Top