عبد الله البقالي: الكتابة هي نوع من التفاعل الجدلي بين الكاتب ومحيطه

عبد الله البقالي قاص يشاكس القصة بلغة ضاجة بالشعر وكناياته واستعاراته لكنها لا تغريه بالاقتراب من القصيدة التي يراوغها مراوغة البواردي (المحارب) الجبلي للبندقية في مشهد من تلك المشاهد التي تؤسس جمالية العرس الجبلي الذي يجمع كل عناصر الثقافة الجبلية وتحولات فصولها في كرنفال احتفالي باذخ الجمال ومتجذر في الأرض والهوية والانتماء.
في قصص عبد الله يحضر التاريخ وأبطاله الذين دفع بهم إلى هامشه ويحضر الشاعر الذي أخطأ الطريق للقصيدة فوجد نفسه متورطا في القصة التي استطاب الإقامة فيها رغم غواية الرواية التي استغوت الجميع لكنها لم تنل من عشقه ووفائه للقصة وللاقتراب أكثر منه ومن عالمه الإبداعي والثقافة الجبلية كان لنا هذا الحوار معه.

قبل أن نبدأ معك الأستاذ عبد الله البقالي هذه الرحلة الحوارية نشكرك على تلبية الدعوة. سنبدأ من الثقافة الجبلية التي لكم محبة وولع خاصين بها فما السر في الاحتفاء الكبير بالثقافة الجبلية والذي يبرز بشكل جلي في قصصكم؟

بداية أشكرك على هذه الفسحة وأرى أن الكتابة هي نوع من التفاعل الجدلي بين الكاتب ومحيطه، فكل عنصر يستقبل ما يفد عليه من أصداء فتتراكم وتترسب في الذهن، ثم تمتزج مع التجارب الخاصة لتنتج تحولا يعكس الرؤية والفهم للعالم، وهي عملية يمكن اختصارها في الاستقبال وإعادة الإرسال دون أن يشترط فيها انتماؤها لجغرافية محددة، بل العامل المؤثر فيها هو ما يستجد في الواقع مع رؤية وقناعات الكاتب، لكن بالنسبة لتجربتي فأنا أقر أنه كان للواقع المحلي تأثيره وأحيانا سحره، خصوصا حين يكون الأمر مرتبطا برقعة جغرافية معزولة، ولا أحد يثير قضاياها أو مكترث بما تسطره من خلال حوارها مع الواقع وتطور الحياة، والتي تعكسه بشتى السبل وبمختلف أنواع التعبير. ولعل هذا ما يستوجب على من كانت له القدرة بالمضي بعيدا عن انشغالاته الخاصة أن يلتقط صدى ذلك الحوار ونقله من الرقعة الضيقة، إلى أوسع مجال ممكن.

يشكل فضاء مدينة غفساي بكل ما يمثله من تاريخ وثقافة ومجتمع وشخوص حضورا بارزا في قصصكم، لماذا هذا الاستحضار لغفساي بهذه القوة؟ هل السبب لأنها حاضرة لأبرز قبيلة من قبائل جبالة كأحد المكونات الثقافية المغربية البارزة في المغرب؟

لا بد من الإشارة إلى أني حين أتحدث أو أشير إلى غفساي، فأنا لا أقصد تلك القرية المحددة المعالم، بل هي مجرد عنصر من محيط كبير قد يمتد إلى خارج الإقليم، ذلك أن الثقافة وإنتاجها هو فعل جماهيري قد تستطيع تحديد كيف ولد، لكنك لا تستطيع رصد كيف تم تلقفه، ولا من قدم الإضافات وعمل على تطويره وصولا إلى الشكل النهائي الذي اتخذه. غير أن المؤكد هو أنه مر عبر مجرى تطور المجتمع ليعلن نفسه بالشكل الذي وصلنا، وأسوق هنا كدليل مسالة “العيطة الجبلية” حيث أن المتمعن لأشعارها، سيلاحظ أنها ليست وليدة لحظة واحدة، ولا نتاج واقعة بعينها ولا مكانا بحد ذاته. بل هي ممتدة في الزمان، ومتعددة الأمكنة. وهي أشبه بسجل يخص القبائل الجبلية والذي دونت فيه بطولاتها وقضاياها. والأمر نفسه ينطبق على الأغاني الجبلية حيث أنها الأثر المتبقي من حياة القدماء بسبب أنه لم يكن هناك تدوين، وهذه الأشعار لا تحمل أي اسم أو ملحن.
بخصوص الشخصيات التي أثارتني، فأنا لم أنجذب إليها فقط لأنها تنتمي للحيز الجغرافي الذي نشأت فيه، بل يعود ذلك لأهمية ما عبرت عنه من انشغالات، وهو أمر مثير فعلا ولا يمكن تجاهله ولٱخر شخصية “كيو” كمثال هو واحد من الأهالي الذي لم يمر يوما بالمدرسة، لكن حرفته كرصاص وبستاني جعلته على علاقة مباشرة مع المجتمع المدني الفرنسي، وما انتهى إليه من خلاصات، ملاحظاته هو إدراكه أن سر قوة المستعمر لا يعود بالأساس إلى القوة العسكرية، بل يرجع بالأساس إلى كونه دولة مؤسسات وذات تحديد واضح للأدوار والمسؤوليات داخل المجتمع، وهو كان يرى أنها مسائل كانت غائبة عن مجتمعه في الماضي، وستظل غائبة في الحاضر وفي المستقبل الذي كان يراه يتشكل، نفس الشيء بالنسبة لشخصية “لاجودان” الذي حاز على أعلى رتبة عسكرية من كل الذين انتسبوا للجيش الفرنسي بالمنطقة، ولذلك كان يرى أنه الأجدر بأن بكون سيد القوم، لكنه قوبل بالتجاهل من قبل الأعيان لكونه لم يطلب تزكيتهم له، بل وتعالى عليهم، والتناقضات التي عبر عنها كاعتباره “دوغول” أرقى إنسان أدخلته في تحد خاسر ولم يدرك أن الدين هو أول بوابة يجب أن يلجها للمضي في أي صوب، مثال آخر شخصية “العياشي الروخو” الذي تصحح قصته اعتقادا خاطئا في كون كل المغاربة اصطفوا خلف الجنرال”فرانكو” في الحرب الأهلية الاسبانية. لقد أنجذبت لهذه الشخصيات ليس لكونها من غفساي، وإنما لعمق الدلالات التي حملتها وعبرت عنها.

ما الذي يريد البقالي أن يقوله من خلال توظيف الشخصيات والفضاء وعناصر الثقافة الجبلية في بناء قصصه؟

ما يمكن أن تقوله كل قصة هادفة جعلت من مهامها أيضا إيضاح ما هو مطموس في شتى مجالات الحياة المطبوعة بغياب التكافؤ، وأيضا إبراز أن الإبداع هو أمر لا علاقة له بالجغرافيا، ومن ثم بحثت عن رد الاعتبار لأشخاص كانت لهم قدرات إبداعية، لكن دون أن تحظى بأي اعتراف، بل ووجهت بالتجاهل لحد بدت فيه هذه الرقعة ومن يسكنها مجرد نكرات لا أمجاد وراءها ولا تاريخ لها.
ما هي عناصر قوة الثقافة الجبلية وما هي عناصر الضعف فيها؟ وكيف يمكن الحفاظ عليها من التلاشي والذوبان بعد موجة المد العولمي الكاسح الذي يهدد حتى المكونات الثقافية الأكثر قوة؟
تجلت قوة الثقافة الجبلية في كونها نجحت في رسم خطوط بصمتها المحلية، لا فيما يتعلق بالأزياء ولا الأكل ولا الطقوس الاجتماعية من أفراح ومناسبات مختلفة، وسن ترسانة من الأعراف تنظم شتى مجالات الحياة، وراهنت على التعليم والتعلم من خلال استقبال عدد هائل من طلاب العلم وحفظة القرآن الذين كانوا يفدون من كل ربوع المغرب الذين تم احتضانهم ومدهم بما يحتاجونه من رعاية لاستكمال تعليمهم.
هذا في الماضي، لكن ما يميز الحاضر هو أن تلك البصمة المحلية التي كانت تميز كل تجمع عن الآخر كان أول من أجهزت عليه هذه الموجة العاتية ليس على مستوى المظهر فحسب، بل حتى فيما يتصل بالجوهر، ويبدو أن القادم سيكون مغرقا في التشاؤم خصوصا وأننا نرى أن هيكلة المجتمع التي تقوم على أساس تربية الناشئة، لم يعد في وسع لا الأسر ولا المؤسسات التربوية التحكم فيها بسبب ضعف التأثير أمام هذا الزحف الذي لم يسلم منه أو يستثن منه شيئا، وهو ما يعني ظهور أجيال ممسوخة لا ذاكرة تخصها وبالتالي لا هوية، وهذا وضع مخيف جدا ويهدد كل الثقافات آ كانت جبلية أو غيرها من الثقافات، إلا أنه بالرغم من كل هذه الضراوة، فلا يجب أن يغيب عنا أن كل الحضارات التي عبرت التاريخ، ولا تلك التي لم تنشأ بعد، لم تنجح في رسم طريق مستقيم تستقيم على سيره الحياة، وهذا يعني أن هذا الزحف الذي يداهمنا لن يختلف عن الموجات التي عبرت التاريخ، وأنه يوما ما سينكسر خط سيره ليفسح المجال لتوجه جديد للمجتمع الإنساني، وساعتها سينتبه أحفادنا إلى وجوب استعادة ذاكرتهم وهويتهم، والمؤسف أنهم لن يعثروا على كل ما يرغبون فيه بسبب انصراف معظم الكتاب والمبدعين الحاليين للكتابة وفق ما يتطلبه هذا الطوفان العابر.

في نظرك هل يمكن الاعتماد على الأدب في الحفاظ على الموروث الثقافي والثقافة الجبلية بشكل خاص بكل أبعادها اللغوية والاجتماعية والأنثربولوجية والتاريخية وغيرها من الأبعاد؟ خصوصا وأن الأدب يمتلك طاقات توثيقية لا تمتلكها الفنون الأخرى؟

نظريا هذا ممكن، لكن لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا في مجتمع يدرك المدونون فيه أهمية ما ينجزونه، لكن بالنسبة للثقافة الجبلية لم يتحقق ذلك في الماضي، والدليل أن أهم ملامح تلك الثقافة لا نجدها سوى في التراث الشفاهي وأقصد الأغاني بشكل خاص، أما بخصوص التدوين فلم يحقق إلا الشيء اليسير. لماذا؟
هذه المعركة الشرسة المتعلقة بتثبيت الهوية لم تكن مستحضرة عند من يمكن اعتبارهم المؤهلين للحفاظ عليها، وأقصد الأجيال المتعلمة وذلك لعدة أسباب، أذكر منها هيمنة التعليم الديني الذي لم يهدف في حدوده القصوى أكثر من إنتاج فقهاء يلقون على طلبتهم ما حفظوه عن شيوخهم، وحتى بعد مجيء المدرسة العصرية التي أسسها المستعمر، فهي لم تهدف لأكثر من إنتاج موظفين صغار ومتوسطين، وحتى أولئك الذين تسنى لهم المضي بعيدا، فهم لم يدينوا لغير طموحهم الشخصي فحسب، بل عملوا على مسح كامل لما من شأنه إثبات انتماءهم وانحدارهم من رقع جغرافبة معينة، وكل ذلك بسبب مسألة انتمائهم التي كانوا يجدونها متواضعة ولا تشرفهم، وهو ما يجعلني تسميتهم بـ”الأجيال المهزومة”.
ربما هذا الوضع صار يتغير منذ بضعة عقود، وصرنا نلحظ بروز كوكبة من الكتاب التي تبذل في الظاهر مساعيها من أجل الحفاظ على هذه الثقافة، لكن الملاحظ أن هذه التجارب لم تصل بعد إلى مرحلة تحولها إلى هاجس، ولم يتعد الوضع في الغالب أكثر من توظيف ذلك المحكي من أجل تحقيق الطموح الشخصي.

كلمة أخيرة

أتمنى أن أكون وفقت في محاولاتي وفي هذه الدردشة من استجلاء معالم صورة لثقافة ظل صناعها متوارين خلف ستائر التجاهل، وأن يلتقط المهتمون ومن وضعوا ضمن انشغالاتهم إنقاذ ما يمكن إنقاذه من التراث الشعبي الذي لن تتجلى قيمته إلا لاحقا، وشكرا للمحاور وللصحيفة.

< حاوره: محمد العزوزي

Top