عنف البوليس لا يُشكّل تعذيبا: ملاحظات حول قرار استئناف مراكش

ألغت محكمة الاستئناف بمراكش حكما ابتدائيا، قضى مؤخرا بأن العنف المنسوب لعناصر شرطة والذي أدى إلى وفاة شخص رهن الحراسة النظرية يشكل تعذيبا وتاليا جناية وفق أحكام القانون المغربي. وإذ اعتبرت محكمة الاستئناف أن الحكم أصاب في توصيف الفعل وفق اتفاقية مناهضة التعذيب، إلا أنه أخطأ في النتيجة طالما أنّ الوصف الجرمي الذي يجدر أن يأخذ به القضاء يتحدّد وفق التشريع الداخلي وليس وفق الاتفاقيات الدولية. من هذه الزاوية، يعيد هذا القرار إلى الواجهة إشكالية اعمال الاتفاقيات الدولية في الأحكام القضائية بالمغرب بعد صدور دستور 2011 الذي أقر مبدأ سموها على التشريع الداخلي.
قضية وفاة شخص موضوع رهن الحراسة النظرية
تعود فصول القضية إلى تاريخ 05 أكتوبر 2022 حينما أوقفت عناصر الشرطة شخصا كان يجلس رفقة صديقته في إحدى الحدائق العمومية، وبحوزته قنينة من المشروبات الكحولية. وحينما أبدى مقاومة تجاه عناصر الشرطة، قاموا باستعمال العنف ضدّه. وفور وصوله إلى مخفر الشرطة دخل في مشاداة كلامية مع عناصر الأمن نتج عنها تبادل العنف بينهم، قبل أن تتم السيطرة عليه وإيداعه رهن الحراسة النظرية. وبعد مرور وقت تدهورت حالته الصحية ونقل إلى المستشفى حيث كشف تقرير الطب الشرعي أنه فارق الحياة قبل الوصول اليها.
أظهرت تسجيلات الغرفة الأمنية أن المحروس نظريا كان يصرخ بصورة هستيرية نتيجة حالة السكر التي كان عليها، بعد وضعه في الحراسة النظرية، وأن أحد عناصر الشرطة قام بتصفيده، في وقت وجه فيه عنصر أمن آخر ضربة بيده على مستوى مؤخرة رأسه، كما ضربه مرة أخرى برجله على مستوى أسفل فخده من الخلف وهو في حالة تصفيد.
فتحت النيابة العامة بحثا في الواقعة أسفر عن توقيف ثلاثة عناصر شرطة، ووجهت إليهم تهمة ارتكاب العنف أثناء القيام بالوظيفة ضد أحد الأشخاص، والتسبب في القتل غير العمدي الناتج عن عدم التبصر وعدم الاحتياط والإهمال طبقا للفصول 231 و432 من القانون الجنائي.
قضت المحكمة الابتدائية بعدم الاختصاص للبتّ في القضية، معتبرة أن الأفعال موضوع المتابعة ترقى إلى جناية تعذيب طبقا لمقتضيات اتفاقية مناهضة التعذيب والبروتوكول الاختياري الملحق بها والتي أوردت تعريفا أشمل من التعريف الوارد في القانون الجنائي بخصوص مفهوم التعذيب، وذلك بعدم اقتصار الألم أو العذاب الجسدي أو النفسي الذي يرتكبه الموظف العمومي في حق شخص على مجرد الغاية في الحصول من هذا الأخير أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف، وإنما يشمل كذلك معاقبة الشخص على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث، أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث.
موقف محكمة الاستئناف من تكييف الوقائع
قررت محكمة الاستئناف إلغاء الحكم الابتدائي القاضي بعدم الاختصاص للنظر في القضية، معتمدة على العلل التالية:
• استند الحكم الابتدائي على مقتضيات الفصل 231-1 من القانون الجنائي على أساس تعرض الهالك الذي كان نزيلا بالغرفة الأمنية في إطار الحراسة النظرية إلى تعذيب؛
• الفصل 231-1 يعرّف التعذيب الذي يمارسه عمدا موظف عمومي أو يحرّض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه في حقّ شخص استنادا إلى اتفاقية مناهضة التعذيب التي صادق عليها المغرب، يقرن ذلك بظروف خاصة أو نتيجة مستهدفة وهي أن يكون ذلك بقصد تخويف ذلك الشخص أو إرغامه أو إرغام شخص آخر على الإدلاء بمعلومات أو بيانات أو اعتراف بهدف معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو شخص آخر؛
• يستنتج من التعريف الذي يقصده المشرّع هو أن يكون الهدف من التعذيب انتزاع اعتراف أو الإدلاء بمعلومات وغير ذلك مما أورده الفصل المذكور؛
• الهالك كان نزيلا بالغرفة الأمنية لدى المصلحة بناء على تعليمات النيابة العامة. ومن المعلوم أن أول اجراء يتخذ بحق الموقوفين إن كان القانون يسمح بذلك هو الوضع رهن الحراسة النظرية لمدة محدودة ومعلومة، وبعدها تأتي مرحلة الاستماع والمواجهة بالمنسوب؛
• الهالك مات وهو محروس نظريا ولم يصل بعد الى مرحلة الاستماع أو الاستجواب، ولم يثبت سواء من خلال التصريحات أو التسجيلات أنه خضع للاستجواب؛
• إن وقائع القضية بدأت بضبط الهالك في حالة سكر بالشارع العامّ وتمّت معاينة حالة سكره وكان الإجراء المتخذ في حقه هو إخضاعه للحراسة النظرية بأمر من النيابة العامة، فماذا سيتم انتزاعه منه من تصريحات باستعمال التعذيب؟
• الحكم الابتدائي اعتمد على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب عن حق فيما يخص منع التعذيب وتجريمه وتبقى السلطة للمشرع المغربي في تحديد متى يعتبر التعذيب مجرما وموصوما بوصف الجناية وقد صاغ ذلك في إطار ما أورده الفصل 231-1 المشار اليه أعلاه؛
• المحكمة الابتدائية لما أخذت بالفصل المذكور على إطلاقه دون تمحيصه وتبيان الغرض المقصود من المشرع لم تجعل لقضائها أساسا من القانون.
ملاحظات حول قرار محكمة الاستئناف
يعتبر هذا القرار من بين الأحكام والقرارات القضائية النادرة التي تعالج إشكالية سمو الاتفاقيات الدولية على التشريع الداخلي. فمن المعلوم أن ديباجة دستور 2011 نصت على التزام المغرب بحماية “منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزيء”؛ و”جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة”.
وقد أفرز التطبيق العملي لهذه المقتضيات عن وجود توجهين قضائيين بارزين:
• الأول يعتبر أن الالتزام بملاءمة التشريع الداخلي مع الاتفاقيات الدولية موجّه إلى المشرّع الوطني أي البرلمان الذي يتعيّن عليه مراجعة كل مظاهر التعارض بين النصوص التشريعية والاتفاقيات الدولية المصادق عليها، وتحقيق الملاءمة؛
• الاتجاه الثاني يعتبر أن الالتزام بملاءمة التشريع الداخلي مع الاتفاقيات الدولية موجّه إلى القاضي الوطني وإلى المحاكم الوطنية التي يتعيّن عليها في حالة تعارض النص التشريعي مع اتفاقية دولية مصادق عليها، أن تستبعد النص الوطني وتطبق الاتفاقية الدولية لكونها تسمو بقوة الدستور على النص الداخلي، بل ولكونها أيضا وبجرد النشر في الجريدة الرسمية تصبح جزءا من القانون الوطني.
يبدو أن قرار محكمة الاستئناف بمراكش انتصر للرأي الأول، حيث اعتبر أن الالتزام بالملاءمة مسؤولية البرلمان، وأن المحكمة الابتدائية كانت محقّة في الاستناد إلى مضمون “الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب” فيما يخص منع التعذيب وتجريمه، إلا أن الإطار المفاهيمي للتعذيب ووصفه الجرمي باعتباره جناية أو جنحة يبقى من اختصاص السلطة التشريعية، حيث “تبقى السلطة للمشرع المغربي في تحديد متى يعتبر التعذيب مجرما وموصوما بوصف الجناية وقد صاغ ذلك في إطار ما أورده الفصل 231-1 المشار اليه أعلاه”؛
يثير هذا القرار الاستئنافي من جهة ثانية إشكالية عدم تطابق جريمة التعذيب المنصوص عليها في القانون المغربي مع مضمون الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب والبروتوكول الملحق بها، بحيث ما يزال القانون الوطني يعتمد مفهوما ضيقا للجريمة يربطها بالهدف من التعذيب وهو “الإدلاء بمعلومات أو بيانات أو اعترافات”، علما بأن الاتفاقية تقدّم تعريفا أوسع يشمل كذلك “معاقبة الشخص على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث، أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث”.

Related posts

Top