فريق التقدم والاشتراكية: يجب التخلي النهائي عن النظرة الضمنية إلى الإضراب على أساس أنه “مساس بالنظام العام”

أكد فريق التقدم والاشتراكية بمجلس النواب، يوم الخميس 18 يوليوز الماضي، في مداخلته خلال المناقشة العامة لمشروع القانون التنظيمي رقم 97.15 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، أنه: “من غير المعقول، ولا المقبول، نهائيا أن يظل هذا الحق، المتأصل في المنظومة الكونية لحقوق الإنسان، بمفهومها الشامل، والمُــــكَرَّسُ في كل دساتير بلادنا، وحيداً منذ نيْلِ بلادنا استقلاَلَها، دون تأطيرٍ قانوني يحفظُ حقوق الجميع ويُحدد التزامات الجميع، بشكلٍ متوازن”.

ودعا فريق التقدم والاشتراكية بمجلس النواب، في أشغال اجتماع لجنة القطاعات الاجتماعية ‏المنعقد، إلى: “التخلي النهائي عن النظرة الضمنية إلى الإضراب على أساس أنه “مساس بالنظام العام”. فيما يلي نص المداخلة:

“السيد الرئيس؛ السيد الوزير؛ السيدات والسادة النواب؛ السيدات والسادة الأطر الإدارية؛

من دون مبالغة، نحن اليوم بصدد لحظةٍ تاريخية، ليس فقط على المستوى التشريعي، ولكن على المستوى المجتمعي عموماً، لأننا بدأنا فعليا في مناقشة التأطير القانوني لموضوعٍ أساسي، هو الحق الكوني والدستوري في الإضراب؛

وهو موضوعٌ ليس سهلاً، ولا يخفى على أحدٍ أنه شائكٌ، وتتقاطع فيه أبعادٌ حقوقية، واجتماعية، واقتصادية، وقانونية، بشكلٍ مُعقَّد، إلى درجة أنه يمكننا الجزمُ بأن الخروج بنصٍّ متَّفَقٍ عليه لن يتأتى سوى بإعمال الذكاء الجماعي وروح التوافق المتين والخلاَّق؛

فممارسة الحق في الإضراب حقٌّ إنساني أصيل، وأداةٌ رئيسية في أيدي العمال، للدفاع عن مصالحهم المشروعة، المادية والمعنوية؛

وكيفيات الحق في الإضراب عاملٌ محوري في تحقُّـــق السلم الاجتماعي الذي هو  شرطٌ من شروط مناخ الأعمال الجاذِبِ للاستثمار. والحق في الإضراب هو مؤشر رئيسي من مؤشراتِ مستوى الديموقراطية في أيِّ مجتمع.

وما يجعلنا، في فريق التقدم والاشتراكية، متفائلين بخصوص مآل هذا الموضوع الذي نفتحه اليوم تشريعيا هو أن المغرب وقواه الحية راكمت ما يكفي من النضج الحقوقي والديموقراطي والمؤسساتي من أجل بلورة اتفاقاتٍ متماسكة حول القضايا المجتمعية الكبرى، مع ما لا يتنافى مع وُجود اختلافاتٍ فكرية وسياسية طبيعية لا يجب أن تُعَطِّلَ المُـــضي قُدُماً وجماعيا نحو إنتاج وتفعيل كل ما يخدم المصلحة العامة للوطن والشعب؛

ولذلك، من البديهي أن نجعل من هذا الملف المجتمعي الكبير قضية أولوية تتجاوز منطق الأغلبية/المعارضة، ومنطق السياسي/النقابي، ومنطق التوجُّس المتبادل بين الطبقة العاملة والمقاولة، سعياً نحو إيجاد توافقاتٍ بناءَة تكون في مستوى مغرب 2024 وما بعده؛

لأنه من غير المعقول، ولا المقبول، نهائيا أن يظل هذا الحق، المتأصل في المنظومة الكونية لحقوق الإنسان، بمفهومها الشامل، والمُــــكَرَّسُ في كل دساتير بلادنا، وحيداً منذ نيْلِ بلادنا استقلاَلَها، دون تأطيرٍ قانوني يحفظُ حقوق الجميع ويُحدد التزامات الجميع، بشكلٍ متوازن؛

فالفصل 29 من دستور سنة 2011 ينص على أن “حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة. ويحدِّدُ القانون شروط ممارسة هذه الحريات. وحق الإضراب مضمون، ويحدِّدُ قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته”.

السيدات والسادة الأفاضل؛

إننا، في فريق التقدم والاشتراكية، نُقاربُ موضوع التأطير القانوني لممارسة الحق في الإضراب انطلاقاً، أولاً ومبدئيا، من مرجعيتنا الفكرية وهويتنا السياسية، منذ النشأة الأولى لحزبنا منذ 81 سنة، والتي يُوجد الدفاعُ عن مَصالح الطبقة العاملة في صُلبِــها؛

وفي نفس الوقت، فإننا نَعتبرُ أن هذه القناعات الراسخة لا تتنافى أبداً مع دفاعنا القوي عن المقاولة المغربية المسؤولة اجتماعيا وماليا وجبائيا وإيكولوجيا، وعن ضرورة دعمها من طرف الدولة، لأن في ذلك مصلحة بالنسبة للاقتصاد الوطني الواجب تقويته، لتوفير القيمة المضافة ومناصب الشغل؛

ولذلك، دعا حزبُنا، في أكثر من مناسبة، إلى بلورة ميثاقٍ اجتماعي حقيقي وفعلي، تلتزم فيه المقاولةُ بالمسؤولية الاجتماعية في الحفاظ على مناصب الشغل وإقرار الحقوق الاجتماعية للشغيلة ومحاربة هشاشة الشغل، وتتعهد فيه الدولة بدعم وتمويل المقاولة وتحسين مناخ الأعمال، بما يتيح شُروطَ سِلْمٍ اجتماعي صلب، بمشاركةٍ فاعلة للنقابات العمالية.

على هذه الأُسس، وعلاقةً بمشروع القانون التنظيمي الذي توجد صيغتُهُ الحالية بين أيدينا في 2024، وهي تعود إلى سنة 2016، أعتقد أنه من العيبِ علينا جميعاً، حكوماتٍ متعاقبة، وبرلمانات متعاقبة، ونقابات، وأحزاب، أن نَقبَلَ باستمرار هذا الفراغ التشريعي، وكأننا نعطي الانطباع بأن فعاليات المجتمع المغربي عاجزة عن معالجة قضايا حساسة. وهذا أمرٌ غير صحيح؛

وبالإضافة إلى ذلك، يتعين الإقرار بأن الحركة النقابية المجيدة في بلادنا، والتي لعبت أدواراً طلائعية في المعركة من أجل الاستقلال، ولاحقاً في معركة البناء الديموقراطي والمؤسساتي، تُواجِه اليوم تحديات حقيقية، على غرار كافة الوسائط المجتمعية، بما يطرحُ علينا جميعاً اسئلة حارقة حول مصداقية المؤسسات المنتخبة، وحول ثقة المواطن في الأحزاب والنقابات، وحول الديموقراطية التمثيلية عموماً التي تُساهم فيها النقابات من خلال غرفة المستشارين أساساً؛

ومن بين هذه التحديات ما أصبحنا نشهده اليوم من تصاعُدٍ كبير لما يُسمى بالتنسيقيات الفئوية. وهي وإنْ كانت تعبِّرُ عن حيوية ودينامية المجتمع، إلاَّ أنها تُثيرُ سؤالاً عريضاً حول “المسؤولية”: من يتحاور؟ من يتفاوض؟ من له سلطة قرار اتخاذ خطوة الإضراب أو إيقافه؟ فليس معقولاً أن تتفاوض الدولةُ مع نقابة وتتفق معها، لتجد في الغد هذه النقابة نفسَها مُــــتجاوَزَة بمبادراتٍ أخرى يَصعبُ في الغالب حصرُها أو تحديد طبيعتها أو أُفقها؛

لذلك، لا خيار لنا سوى إعطاءُ نَفَسٍ أقوى لحياتنا السياسية والنقابية، لتعزيز مكانة الأحزاب والنقابات، لأنها أحد صمَّامات الاستقرار والوضوح والمسؤولية والثقة والمصداقية؛

كما أنه سيكون مفيداً جداًّ أن يكون القانون التنظيمي المتعلق بالحق في الإضراب مقروناً بإصلاحاتٍ متوازية، حتى لا يكون قانوناً أعرج، وأساساً منها: إصلاح مدونة الشغل؛ وقانون الوظيفة العمومية؛ وإخراجُ قانون المنظمات النقابية؛ إلخ.

لكن كل هذه الإصلاحات لن يكون لها مفعولٌ حقيقي في المجتمع، سوى بشرطيْن أساسيين:

الأول هو توفير آليات التطبيق، ولنا في مدونة الشغل الحالية التي لا تُطَبَّق خيرُ دليل، بسبب غياب أو ضعف وسائل المراقبة؛

والشرط الثاني: هو المقاربة التشاركية العميقة والحقيقية مع النقابات في بلورة هذه الإصلاحات، إذ من الواضح أنه لا يُكتبُ النجاحُ لأيِّ إصلاح إلاَّ بقَدر ما ينخرطُ فيه المعنيون به، ولنا في محاولات إصلاح التعليم خيرُ دليل؛

السيدات والسادة الحضور؛

عودةً إلى المشروع الذي بين أيدينا، وفي انتظار أن نبلور مقترحاتٍ تعديلية تفصيلية ومدققة، نسجل 10 ملاحظات عامة وأولية:

أولاً: بخصوص المقاربة التشاركية، ولا سيما مع النقابات، لا يكفي إطلاقُ تصريحات مُطَمْــــئِنَة في هذا الاتجاه من قِبَلِ الحكومة، لأنه لا يوجد لدينا أيُّ دليل (تصريح رسمي أو بلاغ مشترك) على أن الحكومة والنقابات وهيئة المشغِّلين متفقون فعلاً حول التصور العام لهذا المشروع. ولا نريدُ أن نغرِّدَ في مجلس النواب، أغلبية ومعارضة، خارج السرب، أو أن نـــــــــــــــــــكــــــــــــــــــــــــــون Hors sujet؛

ثانيا: إذا كان فعلاً للحكومة الحالية تصور مختلف جوهريا بخصوص المشروع الموضوع منذ 2016. فلماذا إذن لم يتم المجيئ بمشروع جديد؟ (للتذكير: الحكومة الحالية سبق وأن سحبت مشاريع قوانين منذ بداية الولاية، لكن دون أن تُعيدها إلى طاولة النقاش البرلماني للأسف). هل نفهم من هذا الإبقاء على نفس النص محاولةً لربح الزمن التشريعي؟ أم أن الإصلاحات الحكومية الموعودة سوف لن تكون سوى مجرد روتوشات على النص الحالي؟

ثالثاً: نرفض مُـــــغالطة “ربط هذا النص الجوهري والتاريخي بما تُسمِّــــيهِ الحكومة “دينامية الحوار الاجتماعي”” حاليا، لأن الحقيقة أنه رغم بعض المكتسبات الطفيفة في ميدان الحوار الاجتماعي، إلا أن هناك احتقاناً اجتماعيا في عدة قطاعات، وهناك استياء عارم للطبقة العاملة إزاء تدهور قدرتها المعيشية، وهناك تملص واضح للحكومة من الوفاء بعدد من التزاماتها (قطاع الصحة مثلاً)، كما أن هناك خروقات بالجملة لقوانين الشغل (فمأسسة الحوار الاجتماعي ليست هي النجاح في تقديم الإعلانات والتصريحات الوردية المصحوبة بالصور الجميلة، بل هو عمل شاق في العُمق ويتطلب نفساً طويلاً)؛

وفي هذا السياق، نُــــعبِّـــــر مرة أخرى عن رفضنا لأيّ منطق حكومي يقوم على مقايضة المكتسبات الاجتماعية بتمرير نصوص تشريعية أو إصلاحات مُفَصَّلَة على المقاس أو تُضِرّ بمصالح الشغيلة المغربية (وخاصة قانون الإضراب وإصلاح منظومة التقاعد)؛

رابعاً: نؤكد على أنه، من حيث الممارسة الفعلية، يجب أن يكون القطاع العمومي نموذجاً وقاطرة وقُدوة للقطاع الخصوصي في احترام الحقوق النقابية وللحق في الإضراب، وفي الوفاء بالالتزامات؛

خامساً: من حيث مضمون النص في توجهاته العامة، من الواضح أن المشروع الذي بين أيدينا لا يستجيبُ لانتظارات النقابات ولا لتطلعات الشغيلة، ولا يرقى إلى مستلزمات التلاؤم مع روح ومقتضيات الدستور والالتزامات الدولية لبلادنا في مجال الشغل والحقوق الاقتصادية والاجتماعية (أي أنه ببساطة ليس القانون الذي نريده، رغم بعض إيجابياته)؛

سادساً: معنى ذلك أننا مُطالبون جميعاً، حكومة وبرلمان، وفرقاء اجتماعيين وسياسيين، الاجتهاد أقصى ما يمكن، لإخراج قانونٍ تنظيمي، حتى وإنْ لم يُرضِ الجميع، فعلى الأقل لا يُثيرُ الرفض القاطع من الجميع؛

سابعاً: يتعين معالجة النص الذي بين أيدينا مراجعة عميقة، انطلاقاً من الاقتناع الجماعي بأن الإضراب حق، والمنع استثناء، والتأطير القانوني يجب أن يكون متوازناً، مع تنقية المشروع من كافة الصيغ السلبية واستبدالها بصيغ إيجابية؛

ثامناً: لا يوجد في العالَم عاملٌ أجير يقوم بالإضراب أو يشارك فيه حُباًّ في الإضراب، بل إنه يفعل ذلك مضطراً للضغط من أجل نيْلِ حقوقه، لذلك ينبغي تعزيز النص بمقتضيات قوية حول آليات ناجعة وملزمة للحوار والتفاوض وإبرام الاتفاقات الجماعية، كأساليب فُضلى واستباقية لحل نزاعات الشغل الجماعية، وكحلٍّ لخفض حالات الاضطرار إلى خوض الإضرابات؛

تاسعاً: يجب التخلي النهائي عن النظرة الضمنية إلى الإضراب على أساس أنه “مساس بالنظام العام”، وإحلال نظرة جديدة، حقوقية وديموقراطية، مسؤولة ومواطِنة، تقوم على تقدير الدولة والقطاع الخصوصي لهذا الحق وإحاطته بالضمانات اللازمة لممارسته في أحسن الظروف، مع صَوْنِ حرية العمل ومصالح المقاولة والاقتصاد الوطني وخدمات المرفق العمومي؛

عاشِراً: “يكمن الشيطان في التفاصيل”، لذلك سوف لن يكون كافيا أن نتفق حول المبادئ العامة. بل علينا، إلى جانب المقاربة التشاورية الواجبة مع الفرقاء الاجتماعيين، أن نعطي الوقت الكافي، بعيداً عن التسرع، للمناقشة التفصيلية، مع منح آجالٍ كافية للتعديلات. وذلك لأن مواضيع هامة تحتاج إلى التدقيق والتوافق، ولا سيما منها: تعريف الإضراب؛ تحديد الجهة الداعية للإضراب؛ التحديد الدقيق لحالات مُخالَفَة قانون الإضراب من طرف الأجراء والمشغِّلين؛ شروط وكيفيات الإعلان عن الإضراب واتخاذ قراره والمسؤولية عن ظروف خوضه والأسباب الداعية إليه؛ تحديد مفهوم الحد الأدنى للخدمة الحيوية؛ ثم إعادة النظر في المخالفات والعقوبات حمايةً للمضربين ولغيرهم. وهنا لا بد من مواكبة هذا العمل بإلغاء الفصل 288 المشؤوم من القانون الجنائي.

وللحديث بقية.

شكراً لكم”.

Top