يقترن الثامن عشر من شهر دجنبر؛ باليوم العالمي للغة العربية، وهو احتفاء لا ينبغي أن يقف عند مدح هذه اللغة والتعبير عن الاعتزاز بكوننا ناطقين بها وبأنها لغة القرآن ووو.. إلى غير ذلك من أشكال الاحتفال السطحي، وهو ما لم نلمسه في ساحتنا الثقافية والإعلامية، خلال الفترة المتزامنة مع إحياء هذا اليوم العالمي، على الأقل.
***
كنا نتمنى لو أن اليوم العالمي للغة العربية، يشكل بحق فرصة لتنظيم ورشات ومنتديات كبرى لفتح نقاش موسع حول الوضع الراهن لهذه اللغة التي تواجه تحديات كثيرة بإمكانها أن تشكل تهديدا حقيقيا لها، ونحن نعلم أن هناك مؤسسات ومنظمات تعنى بموضوع اللسانيات وباللغة العربية تحديدا.
مما لا شك فيه أن اللغة تتطور مع الأزمنة، وإلا حكم عليها بالموت، فمن المفروض أن تواكب مستجدات العصر، والعمل على تبسطيها أكثر، سواء من حيث القواعد والتعابير؛ لأجل أن تحافظ على مرونتها، وتؤدي الدور المنوط بها، أخذا بعين الاعتبار أن اللغة كيفما كانت تظل في نهاية المطاف مجرد وسيلة للتعبير والتواصل والتفاهم واكتساب المعرفة وما إلى ذلك، وبالتالي هذا يستدعي أن لا تظل جامدة داخل قوالبها، مما يعني أن الساهرين على إعداد القواميس اللغوية، مطالبون بتنقيح هذه القواميس وجعلها انعكاسا لمرآة عصرنا.
العلم في تطور مستمر، وهو يستدعي بالتالي ولادة مصطلحات وتعابير جديدة تتماشى مع هذا التطور؛ إذ لا يمكن أن نعبر عن شيء حديث بأسلوب العصور السالفة.
لنأخذ على سبيل المثال، التكنولوجيا المرتبطة بمجال التواصل، لقد فرضت اللغات الأجنبية وجودها بفضل مواكبتها لهذه الثورة الإلكترونية، في حين أن اللغة العربية ظلت محتشمة عاجزة عن اقتحام هذا الميدان كما يجب وبشكل طبيعي وسلس، رغم أننا لا ننكر وجود محاولات طيبة، هذا الوضع أفرز لنا مع ذلك عدة مظاهر سلبية، لا أحد ينكر تأثيرها الخطير على مستقبل اللغة العربية.
عندما يضطر العديد من مستعملي التواصل الالكتروني إلى التعبير باللغة العربية بواسطة حروف لاتينية، على سبيل المثال؛ فإن من شأن ذلك أن يجعلهم يتعودون على أسلوب هجين في التعبير، يهدد ليس فقط اللغة التي ينطقون بها، بل هويتهم كذلك، وخصوصياتهم.
لا ينبغي الاستهانة بالأخطاء اللغوية والنحوية التي صارت سائدة في التعبير باللغة العربية، أخذا بعين الاعتبار أن القاعدة اللغوية لم تنشأ اعتباطا، بل أتت لتحافظ على هذه اللغة من الزوال والاندثار.
الإعلانات الإشهارية أساءت كثيرا للغة العربية، فما يهم أصحابها هو تحقيق نسبة أعلى من استهلاك منتوجهم، لا يهمهم إن كان ذلك سيضر بهذه اللغة أو تلك، وطبعا فإن المتلقي، خصوصا إذا كان في بداية التعلم، سيتفاعل مع تلك الإعلانات والألواح الإشهارية، ليس فقط عبر ما تعرضه من منتوج استهلاكي، بل كذلك من خلال توظيفها اللغوي.
يزداد هذا الوضع حدة، حين تنتقل أزمة اللغة إلى المؤسسات التربوية والإعلامية التي من المفروض أن تلقن اللغة بقواعدها السليمة.
هناك كذلك تراجع في التعبير بلغة عربية سليمة وراقية، حتى من طرف المؤلفين، سواء كانوا أدباء أو مفكرين.
إننا باختصار نمارس عنفا شديدا على لغتنا ونحن بذلك نقسو على أنفسنا أكثر من أي شيء آخر.
***
إن الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، مناسبة جد هامة لأجل دق ناقوس الخطر الذي يهدد مستقبلها، وحافز أساسي لوضع هذه اللغة تحت المجهر والتفكير بجد في جعلها مواكبة للعصر، دون التفريط بطبيعة الحال في أسسها.
عبد العالي بركات