ماتت السياسة

بين حكم البلوتوقراطية والتكنوقراطية

في زمن تتصارع فيه الأحداث السياسية والاقتصادية، وتظهر فيه ملامح السلطة بشكل جذري، بات من الضروري إعادة النظر في أسس وأنماط الحكم المعتمدة في مؤسسات الدولة، ويأتي في مقدمتها نظاما البلوتوقراطية والتكنوقراطية، اللذان يرمزان إلى تجمع السلطة في فئة ضيقة من الأثرياء، وتفضيل الإجراءات الشكلية والقواعد الجامدة على المشاركة الفاعلة والإبداع السياسي؛ إذ يفرض نظام البلوتوقراطية نفسه عبر توطيد النفوذ بين نخبة محدودة، كما تعيق التكنوقراطية صنع القرار، وتصرف العملية السياسية في دوامة من التعقيدات الإدارية والقرارات التي تُصنع من خلال المهارات والكفاءات العلمية والتقنية، بعيدًا عن احتياجات الشعب ومتطلبات العصر.
ومن هنا يتضح أن هذا المزيج الفاسد من السلطة المتمركزة والإجراءات التكنوقراطية قد أسهم بشكل مباشر في إخماد روح الفعل السياسي، حيث أدى إلى موت التجديد والديمقراطية الحقيقية.
عندما نبحث في أصل هذين التسميتين (التكنوقراط والبلوتوقراط)، نجد أن ما كتبناه في المقدمة من معانٍ غير محمود، لكن للأسف، فإن نظام الحكم المكوَّن من البلوتوقراطيين والتكنوقراطيين أشد فتكًا وأخطر مما كشفنا عنه في المقدمة أعلاه. وفي هذا المقال، سنسبر أغوار هذين النظامين اللذين يظلان مرضًا مزمنًا في الحكم والسياسة، لنكشف عن أوجه قصورهما التي أدت إلى شلل الحركة السياسية وموت الفعل الشعبي، وسنطرح أسئلة جوهرية حول مصير الديمقراطية ومستقبلها، وإمكانية استعادة السلطة للشعب الحقيقي، وذلك من خلال معطيات حقيقية موثقة عن الحكومة الحالية، والتي عنوانها هو عنوان هذا المقال.
فما هو أصل تسمية التكنوقراط والبلوتوقراط؟ وكيف ساهمت الحكومة الحالية في اجتثاث الفعل السياسي؟ وكيف انتقلت السياسات العمومية من سياسات شعبية ذات طبيعة وطنية إلى مصالح شخصية فردية؟
التكنوقراط هو نظام حكم يقترح اختيار صناع القرار على أساس خبراتهم في المجالات التقنية. يقوم نظام التكنوقراط على فكرة أن القرارات التي يتخذها هؤلاء تكون أقرب إلى الصواب؛ لأنهم يعتمدون في اتخاذها على البيانات والمناهج الموضوعية، بدلًا من الأفكار التي تتماشى مع مشروعهم السياسي الحزبي.
صحيح أن حكم التكنوقراط كانت له أهمية خلال فترة الكساد التي عاشتها أمريكا في عشرينيات القرن الماضي، حيث تعالت الأصوات الداعية إلى أن التكنوقراطية باتت تُنظر إليها في الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها طوق النجاة الذي سيخرج البلاد من الأزمة الاقتصادية التي فرضها الكساد، إذ ساد الاعتقاد أن المهندس ذو المهارة العالية هو الأكثر قدرة على حل مشاكل البلاد الاقتصادية من السياسيين المنتخبين على أساس برنامج انتخابي معين.
وعلى الرغم من ذلك، فإن حكم التكنوقراط هو حكم غير استراتيجي نظرًا لسلبياته العديدة، أولها أن التكنوقراطية نقيض الديمقراطية، لأن هذه الأخيرة تعني الاقتراع المباشر للشعوب في اختيار صناع القرار. بالإضافة إلى ذلك، فإن التكنوقراطيين يهمشون آراء واسعة من السكان، باعتبارهم أن آرائهم هي الأصح، مما يجعلهم يتخذون قرارات بمعزل عن احتياجات المجتمع.
عندما يحكم التكنوقراطي، تكون له وظيفة طبيعية، ويعمل وفقًا لمنهجية محضة، ولا يعطي اعتبارات للعوامل الإنسانية. مثلًا، الحل التكنوقراطي في مؤسسة تعاني مشاكل اقتصادية قد يكون تسريح عدد كبير من العمال، أو تقليص الرواتب والضمانات الاجتماعية، حيث يتم التركيز هنا على العائد الاقتصادي وتقليص النفقات. هذا ما فعلته الحكومة الحالية في أغلب وزاراتها، بدءًا من رئيس الحكومة ووزرائه التكنوقراط، حينما أخرجوا قانون الإضراب، الذي هو قانون تكبيلي يعطي الحق للباطرونا، ويمنع الإضراب عن الشغيلة، مع وضع شروط تعجيزية لممارسته.
وعلى الرغم من الدور الذي يلعبه حكم التكنوقراط في أكثر الدول تقدمًا، كالصين مثلًا، التي يسيرها عادة تكنوقراط، فإن بلدان الجنوب السائرة في طور النمو، أو تلك التي تتحكم فيها توصيات صندوق النقد الدولي، هي دول فاقدة لجزء من سيادتها، ولهذا فهي تحتاج إلى سياسي على رأس صناعة القرار. لأن التكنوقراطي، عندما يُوضع في وزارة معينة أو في موقع مسؤولية في بلدان العالم الثالث، فمن السهل إخضاعه لسياسات وتوصيات صندوق النقد الدولي، على عكس السياسي.
إذا كان نظام حكم التكنوقراط نظامًا فاشلًا في إدارة الحكم وصياغة السياسات العمومية، فماذا عن حكم البلوتوقراط، المتمثل في وزراء الحكومة الحالية، الذين ينتمي معظمهم إلى حزب الأحرار أو حزب رجال الأعمال؟
البلوتوقراطية هي مفهوم نظري يعني سيطرة الأثرياء على السلطة، والتحكم في قرارات الدولة والتأثير عليها. يتمتع أصحاب هذا المفهوم بنفوذ قوي يمكّنهم من اتخاذ القرارات الحاسمة.
في النظام البلوتوقراطي، يحكم الأثرياء البلاد، إما بشكل مباشر عبر تولي مناصب حساسة، أو عبر تعيين أشخاص آخرين في مواقع رسمية بجهاز الدولة ليكونوا في خدمتهم ويحافظوا على مصالحهم الخاصة. كما وقع في صفقة تحلية المياه، التي فوضها رئيس السلطة التنفيذية لشركته، حيث نجد أنفسنا أمام شخص ثري ورئيس حكومة في الوقت نفسه، يدافع عن مصالحه الخاصة، لا عن سياسات عمومية وطنية وشعبية. فعندما يُسحب قانون الإثراء غير المشروع، للتطبيع مع الفساد وعدم المساءلة، نكون أمام حكومة بلوتوقراطية. عندما يحتكر مستورد اللحوم، المنتمي لحزب الحكومة، السوق، نكون أمام حكم الأثرياء. عندما يُخفض سعر استيراد الأدوية، وتُخفض الضريبة على القيمة المضافة عند الاستيراد، لأن أقارب رئيس الحكومة وأحد وزرائه يملكون شركات كبرى في هذا المجال، نكون أمام حكام يشرعون لأنفسهم في قانون المالية، وليس قانونا شعبيا وطنيا. وهنا تسقط خاصية القاعدة القانونية، التي مفادها العمومية والتجريد.
عندما يخفض سعر الاستيراد من 40% إلى 2.5% في قانون المالية لصالح رجل أعمال ينتمي إلى الحزب الحاكم، حزب رجال الأعمال، نكون أمام حكم البرجوازية المتوحشة (النيوليبرالية الجديدة). وعندما تقف مؤسسات الحكامة، كمجلس المنافسة مثلا، عاجزة عن محاربة هذه الممارسات، نكون أمام حكم الأثرياء ولوبياتهم وأوراقهم الضاغطة على هرم السلطة.
وما البحث عن معنى المصطلح إلا عن طريق تتبع تطوره التاريخي، فمفهوم البلوتوقراطية يعني أيضا استخدام الأثرياء ثرواتهم للتأثير على المسؤولين المنتخبين عبر الوسائل القانونية، وحتى غير القانونية، من قبيل الضغط، والرشوة، والمساهمات المالية الكبيرة في الحملات الانتخابية.
في ظل هذا التباين بين التكنوقراط والبلوتوقراط، قد يتبادر إلى الأذهان السؤال: هل ماتت السياسة بالفعل؟ السياسة التي تقوم على التفاعل الحقيقي بين الحاكم والمحكوم، والتي تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة؟ لقد أُصبنا جميعًا بالذهول أمام واقع تحوّل فيه القرار السياسي إلى مجرد إجراءات إدارية أو مصالح شخصية، بعيدًا عن القيم التي تأسست عليها السياسة منذ العصور القديمة.
لكن، رغم كل هذه التحديات، تبقى السياسة حية في قلوب المواطنين الذين يسعون لاستعادة تأثيرهم في المشهد السياسي. إن الحل ليس في الاستغناء عن السياسيين أو الخبراء، بل في تحقيق توازن بين الكفاءات والتفاعل الشعبي، وضمان أن تكون السياسة في خدمة الناس، لا مجرد لعبة للسلطة والنفوذ.
بين التكنوقراط والبلوتوقراط، تبدو السياسة الحقيقية في خطر، لكن لا يزال الأمل قائمًا في استعادتها، من خلال محاسبة المسؤولين، وإشراك الجميع في صنع القرار، وإحياء السياسة الحية التي تستمد قوتها من الشعب.

بقلم: سعيد بنجرادة

باحث في علوم التربية. عضو القطاع الطلاب لحزب التقدم والاشتراكية

Top