مبدعون مازالوا بيننا -الجزء الثاني-

في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية.
في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

أحمد الورديغي.. مبدع علَّمته الطبيعة (الحلقة 14)

مراد بن مبارك وبرودسكيس مكتشفا أحمد الورديغي

نشأ الفنان التشكيلي أحمد الورديغي بسلا (1928 – 1974)، حيث أصبح بستانيا في سن الثانية عشرة، بعد أن تلقى التعليم الأساسي في أحضان المدرسة القرآنية. حتى سن 31 عامًا، كان يكسب عيشًا متواضعًا من خلال العمل بحدائق السوق المحيطة بمسقط رأسه، وفقًا لتقدير أرباب العمل. لقد أدى تفاعله عن كثب مع عالم النباتات إلى تكييف طريقة تمثيله ورسمه لموضوعاته. قام في بداية تجربته برسم الزهور والأشجار على أوراق بسيطة طالما أهداها لأصدقائه. يحكي المؤرخ محمد السجلماسي في مؤلفه المرجعي “الفن المعاصر بالمغرب” (ص 194): ذات يوم، اقترح بستاني آخر على أحمد الورديغي، يتعلق الأمر بالفنان التشكيلي ميلود لبيض، أن يعرض أعماله التشكيلية على أنظار مراد بن مبارك، مهندس شهير بالرباط والمسؤول عن إدارة التصميم الحضري في ذلك الإبان، وعلى السيدة جاكلين برودسكيس التي كانت تؤطر ورشة فنية تكوينية، وهما اللذان حفزاه على تنظيم معرضه الأول عام 1961 برواق باب الرواح بالرباط، وقد ضم هذا المعرض لوحات تلوينية زاهية وأخاذة عكست عوالم عمله كبستاني، وأكدت ثراء الحدائق الغناء، حيث تسود النباتات المورقة والبديعة، مع اهتمام بالغ بشغل مساحات اللوحة، ومعالجة كامل سطح الإطار المسندي، وكأنه يلتزم بالمقولة الوجودية: “الطبيعة تخشى الفراغ”. هكذا يملأ الورديغي اللوحة بكامل وحداتها المشهدية، مستلهما خياله التشكيلي من النباتات والقصور والمساجد والشخصيات في جو بصري ماتع وباذخ.

اقتنى أندريه مالرو من أعماله ليعرضها بمتاحف باريس
حول الأبعاد البصرية التي وسمت تجربة أحمد الورديغي الإبداعية، كتب الناقد الفني عفيف بهنسي: “أكثر من مثال وشاهد، يؤكد أن الطبيعة هي المعلم الأقوى، وأكثر من شاهد ومثال يثبت أن الدراسة الأكاديمية تصنع مصورا ونادرا ما تصنع الفنان. وأحمد الورديغي نموذج فنان مبدع علمته الطبيعة، وهي طبيعة أنيقة في هذه المرة، ليست هي الجبال والصحراء الكبرى، وليست هي القرية والفقير، بل هي الحدائق ومشاتل الزهور.
ولد أحمد الورديغي بمدينة سلا وكان أبوه حدائقيا فأخذ عنه هذه المهنة الجميلة وكان في الثانية عشرة من عمره، واستمر متطورا في هذه المهنة، يغرس الزهور ويعيش بين الحقول والأزهار. وتخمرت هذه الرؤى في وجدانه دون أن يجرؤ على التعبير عنها حتى إذا بلغ الواحدة والثلاثين من عمره، تفجرت موهبة التصوير لديه فجأة، فكان إذا ما جن الليل هرع إلى ألوانه القليلة وإلى أوراق يصور عليها انطباعاته الوردية ومشاهده الحدائقية التي اطلع عليها مهندس معماري بالرباط هو مراد بن مبارك، احتضن موهبته ورعاها ودفع بأعماله إلى أول معرض يحمل اسم أحمد الورديغي عام 1961 الذي دشن فيه موهبته، وشق له من بعد طريقا جديداً هو طريق الفن الزاهر، واندفع يعمل بحرارة وشغف حتى أنه نظم أكثر من أربعين معرضا في المغرب وخارجه خلال عشر سنوات فقط. واقتنى أندريه مالرو من أعماله ليعرضها بمتاحف باريس.

ومما يثير الإعجاب في أعمال الورديغي، هو ذلك التطابق العفوي بين فنه وقيم الفن الإسلامي التقليدي. لقد نقل الورديغي القصص الدينية تارة والأسطورية تارة أخرى، كما نقل بعض الأحداث البطولية والغرامية المنتزعة من ألف ليلة وليلة وسجلها بأسلوب منمنم فطري. وبلغة عامية قروية، ولكنها لغة ملـحنة حافلة بالأنغام التي تطرب العين والنفس بألوانها وخطوطها وطرافتها.
الزهور، الحدائق، الينابيع والبحيرات، والعرائس المبثوثة ووجه المحبوبة يشع بزحمة الألوان مطلا كالبدر، كل هذا مضمون كباقة أنيقة، هو لوحة من لوحات الورديغي التي أصبحت وبسرعة تتصدر البيوتات والمتاحف وترتفع بصاحبها لأعلى مستويات الشهرة والتقدير” (عفيف بهنسي، رواد الفن الحديث في البلاد العربية، منشورات دار الرائد العربي، 1980، صص. 233 و234).

البحث عن حديقة مفقودة
ما بين دجنبر 2021 ومارس 2022، احتضن فضاء التعبيرات التابع لصندوق الإيداع والتدبير بالرباط معرضا جماعيا معنونا بـ “حديقة عدن أو رؤية لمجتمع مثالي”، ضم أعمال أحمد الورديغي إلى جانب محمد بن علال، ومولاي أحمد الإدريسي، وفاطمة حسن الفروج، وحسن الكلاوي، وبوجمعة لخضر، وعباس صلادي. شكل هذا الحدث فرصة سانحة لاكتشاف عبقرية سبعة فنانين راحلين ساهموا بشكل كبير في كتابة تاريخ الفن في المغرب. في افتتاحية الكتاب المخصص لهذا المعرض، كتب رئيس مؤسسة صندوق الإيداع والتدبير عبد اللطيف زغنون: “إن هؤلاء الفنانين، الذين يصنفون أحيانا على أنهم (ساذجون) في زمنهم، يستحقون اليوم إعادة قراءة فكرية جديدة، بحيث لا يمكن ربط أسمائهم بأي صفة تقلل من موهبتهم… تفردهم الشعري ينبع من تراث مغربي غير مادي نظل دوما متشبثين به بشدة، وهو مزيج بين الروحانيات والثقافات الشعبية”. فكل هؤلاء الفنانين العارضين، من منظور أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، عبد الجليل الحجمري، يمثلون مغزى “حديقة عدن” و”جنة مفقودة”، فأحمد الورديغي وغيره من الفنانين العارضين يدعو المشاهدين إلى الغوص في رحلة في أعماق الروح البشرية التي تغذيها الديانات التوحيدية الثلاثة بأساطير خالدة؛ رحلة تعيد النظر في ازدواجية الحالة الإنسانية المنقسمة بين السمو الفائق والجمال السماوي، والانغماس في معاناة الخسارة. إنه من “هؤلاء الفنانين التشكيليين السبعة الذين قاموا بعمل عفوي في البحث عن المثل الأعلى، وعن حديقة مفقودة، وعن مغرب يطمحون في رؤيته، مغرب رائع يشبه الجنة”، كما صرحت بذلك المديرة العامة لمؤسسة صندوق الإيداع والتدبير، دينا الناصيري.

عاش عصره بكل أريحية وحلمية
من البديهي أن تجتذبنا فضاءات لوحاته السردية التي نلفي فيها شذرات من ذواتنا، فهي بمثابة مسكن لأحلامنا الكبرى ومتنفس لتطلعاتنا وانتظاراتنا. داخل لوحاته الفردوسية تثوي العديد من اللوحات المشهدية بناء على بلاغة “التقعير البصري”، وكأن به يقدم روح المنمنمات الشعبية بصيغة أخرى بعيدا عن كل تصوير معياري أو مقولب. في لجة عوالمه التشكيلية، تنتفي العلاقة الثنائية القطعية بين الحداثة والمعاصرة، وبين الحداثة وما بعد الحداثة. فهذا الفنان، كسائر مجايليه، يعيد الاعتبار للجذور والمناهل والمتخيل الجمعي بكل مكوناته وتجلياته البارزة. ليس هناك أي انزياح، أو تجاوز، أو قطيعة، أو استنبات… كل ما التقطته عين الفنان أحمد الورديغي فهو مادة حية منبعثة من جديد كطائر العنقاء الأسطوري بجناحيه العملاقين. أدرك بأن الهجانة التي تسري في الكيان المجتمعي من شأنها أن تطمس كل ما هو أصيل وعريق، رغم القدرة التداولية على تعايش الأشياء وتجاورها خاصة في الأوساط الشعبية.

لابد من الإقرار بحقيقة جمالية مفادها أن العمل الفني لدى أحمد الورديغي ليس مرآة لمعيشه على الطريقة الانعكاسية الآلية، ففي سجلات الفن عبر التاريخ من الصعوبة بمكان الحديث عن تسجيل حرفي أو تناظري. إننا أمام تأويل ذاتي لواقع موضوعي، مما يفسح المجال لانطباعات المبدع وتجليات لحظة إبداعه ومصادفاتها. لا يصور الواقع كما هو على طريقة الواقعيين أو الانطباعيين أو الفوتوغرافيين، يرسم فقط ما ترسخ في ذاكرته الذهنية وما شاهده في حياته اليومية.

سيمفونيات بيتهوفن لازمت مخاض لوحاته
سجل أحمد الورديغي المشاهد الطريفة بألوانه وأشكاله الفطرية، فهو لا يتقمص شخصية أي فنان مهما كانت شهرته ومكانته. المعيش اليومي والجانب الذاتي هما خزانه الإبداعي الذي لا ينضب ومادته الجنينية الأولى، وما تبقى أسلوب فردي وتقنية انسيابية وتصور خام وتخيل عذري حالم.
بهذه المفاتيح الدالة، نقارب ميثاق تعبيره التشكيلي الذي لا يتقيد بأي منطلق قبلي، بل يعيش عصره بأريحية وحلمية، منفتحا على انطباعات وسطه الاجتماعي والفني. هذا هو ديدن أحمد الورديغي وشيمته إنسانا وفنانا خارج كل تهافت واتباع أعمى لمسالك الآخر والغير. رحل عنا وفي قرارة نفسه فيض من الأعمال الفنية الخصيبة قيد الإنجاز همها الوحيد هو تشكيل أحلامه وانشغالاته اليومية في قلب الفن المغربي المعاصر بدون ادعاء أو تظاهر. رحل عنا وفي ذاكرته السمعية ترسخت سيمفونيات بيتهوفن التي لازمت مخاض ولادة لوحاته، وكذا حكايات ألف ليلة وليلة الغرائبية التي أولها بأسلوبه الصباغي المتفرد المتماهي مع رسومات الأطفال التشويقية وأساطير الثقافة الشعبية، كما هو الحال في لوحته الرحبة “أسطورة تَدمر” (تصوير صباغي بتقنية الغواش على الكونتربلاكي، 563 x 250 سم، مجموعة الدكتور محمد السجلماسي).

> إعداد: عبد الله الشيخ ابراهيم الحيسن

Related posts

Top