مسرحية “حمام بغدادي” لجواد الأسدي تسلط الأضواء على الراهن العراقي

عرف حفل اختتام فعاليات الدورة الثامنة عشر لمهرجان جائزة أكادير للمسرح الاحترافي المنظم من 11 إلى 15 ماي 2016 تقديم العرض المسرحي “حمام بغدادي” للمخرج العراقي جواد الأسدي، الذي كان ضيف شرف هذه النسخة من المهرجان.
والعرض من تشخيص الممثلين العراقيين عبود الحركاني وحيدر أبو حيدر اللذين جسدا بشفافية وأداء مسرحي عال الحالة العراقية السياسية والاجتماعية الراهنة، وشخّصا الوضع زمن استبداد حكم حزب البعث مرورا بخراب الحرب والاصطدام بدبابات الاحتلال الإمريكي. وذلك من خلال نص جواد الأسدي ورؤيته الإخراجية التي شُيدت على جماليات بصرية كان أساس مفرداتها جسدا شخصيتين تظهران في بداية العرض وقد كستهما ملابس أقمشتهما الحالكة.. لندخل معهما فضاء “الحمام البغدادي” الذي يُغلق على الأخوين “مجيد” و”حميد” واللذين يتجاوزان غسل جسديهما إلى ما هو أبعد.. إنها حالة من التطهير للروح من أدرانها ومما يعانيه الإنسان العراقي بل الإنسان المقهور في وطننا الكبير.  
ورغم فداحة ما يجسده العرض فهو ليس تحليلاً شاملاً لبنية الواقع العراقي – يقول جواد الأسدي – إنه إضاءة لجانب صغير مما يحدث في العراق.
تحكي المسرحية قصة أخوين عراقيين يشتغلان كسائقي حافلة تنقل المسافرين ما بين بغداد وعمان. الأخ الأكبر “مجيد” الذي لم يحقق من أحلامه وآماله شيئا يذكر، يلهث وراء مصلحته ويتعامل مع المحتل لتحقيق ربحه المادي، ويبرر فعله ذاك بخطاب براغماتي يعكس شخصية مركبة، فهو يكره الأمريكان لكنه لا يجد أي حرج في تقديم خدماته لهم إذا ما دفعوا له بالعملة الصعبة. أما الأخ الأصغر “حميد” فتبدو شخصيته مهزوزة وينتابه كثير من الضعف، فهو مجرد تابع لأخيه الأكبر والذي يستغل جهده ويخضعه لسلطته. ومن لحظات تجلي عقدة الذنب التي تنتابه وترسخ في دواخله جرحا غائرا لم يمحوه توالي الأعوام، تلك اللحظة التي يعترف فيها لأخيه بما أخفاه عنه لسنوات.. وهو تعاونه بشكل قسري – زمن النظام البعثي المطاح به – في نقل أربعين شابا عراقيا بالحافلة عام 1998 إلى ساحة إعدام جماعي.
حالة التمزق التي يعيشها الشقيقان تكثيف للوضع السياسي العراقي. إننا أمام شعب استبيحت أرضه وحضارته. شعب عانى من الاستبداد والقمع ومن الاحتلال والقهر، وها هو يعاني من الطائفية الدينية والمحاصصة السياسية وويلات الديمقراطية الأمريكية. وضع متشظي يبحث في متاهاته الإنسان العراقي ذو الحضارة الضاربة في أعماق التاريخ البشري عن كيانه الحقيقي بعيدا أي تزييف للوعي.
اعتمد جواد الأسدي في سينوغرافيا عمله المسرحي على الفضاء الخالي إلا من “بانيو” يتوسط عمق الخشبة ومصطبتين استخدمتا بشكل جمالي  ووظيفي وبعض الأكسسوارات القليلة… الأمر الذي أتاح له إمكانية الكتابة بجسدي الممثلين في تعالقهما مع مفردات السينوغرافيا الفقيرة “ماديا” والغنية “جماليا”.  
إن إدارة الممثل وقيادة روحه وجسده باتجاه منطقة الأداء الخطرة والبعيدة عن الكلشيهات وأساليب التمثيل الجاهزة هي واحدة من ركائز المشروع المسرحي والجمالي عند جواد الأسدي.. لقد استطاع الممثلان عبود الحركاني وحيدر أبو حيدر أن يحملا المتفرجين إلى العراق.. إلى مأساته المعاصرة. لقد استطاعا وهما اثنان فقط على الخشبة أن يخلقا حالة مسرحية استثنائية تشعرك بالكثرة. فمن خلال تشخيصهما المتقن رأينا الجموع والشوارع والدبابات.. رأينا التفتيش والأسواق والحدود.. رأينا المجازر والجثث والشاحنات… رأينا العراق والعراق والعراق.
“حمام بغدادي” درس جمالي في ضبط الإيقاع المسرحي وقياس منسوب جرعات الأحاسيس والانفعالات ودوزنة أوثار الأداء التمثيلي والكتابة بالضوء والحركة. إننا أمام حالة مسرحية هي بمثابة امتداد لمشروع مسرحي يراهن منذ تشكلاته الطلائعية الأولى على موهبة الممثل ومهارته وعلى رؤية المخرج وإدارته وعلى خشبة نص يحمل هموم الإنسان وتطلعاته إلى غد أفضل وعالم أجمل.
وجدير بالذكر أن مؤسسة الفكر العربي منحت جواد الأسدي جائزة الإبداع عن نصه “حمام بغدادي”. كما حاز عام 2004 على جائزة الأمير كلاوس للمسرح عن نصوصه المسرحية التي سلطت الضوء على الحرب وانهيار حياة المدينة والإنسانية في بلده العراق. حصل أيضا على جائزة مسقط عاصمة الثقافة (2006). وحصد جوائز ذهبية في مهرجانات قرطاج بتونس، وأقام محترفات وورشات عمل في دول عربية وأوروبية كألمانيا وإيطاليا وفرنسا. قدمت عروضه في أكثر من بلد عربي وأوروبي وترجمت نصوصه لأكثر من لغة.
تخرج جواد الأسدي من العراق، بغداد سنة 1972 غادر إلى صوفيا ببلغاريا حيث حصل على الدكتوراه في الإخراج المسرحي سنة 1983. درّس مادة التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، وأخرج عددا من المسرحيات هناك منها: “عنبر رقم 6″ عن أنطوان تشيكوف، و”الخادمتان” لجون جونيه، و”ميس جولي” في السويد و”رأس المملوك جابر” لسعد الله ونوس في إسبانيا.

بقلم: عبد الجبار خمران

Related posts

Top