تتعدد مكونات أضمومة القاص المغربي الأمين الخمليشي “عربة مدام بوفاري”، وتتنوع ” ثيماتها” في نسيج سردي يتجاور فيه التراث بالفكر بالدين…في قالب جمالي غني بحمولات دلالية موسومة بالعمق والفرادة في صياغة منحوتة البناء، متراصة التركيب.
فاللغة تتذبذب بين يسر وسهولة ، ودقة ورصانة متوسلة حينا باستعمال دارجي :” يصبنه ليلا وينام فوقه ليصبح ناشفا” ، وأحيانا بتوظيف أمازيغي / ريفي :” أميس نتمورت ” أو: ” إسرمان : الحوت” ولم لا الجمع بينهما في عملية التدريس: “تشرح لتلامذتك بالريفية إن لم يفهموا بالدارجة ” لغة تغدو أكثر قدرة وفعالية على وصف زخم حالات ومواقف تتناوب فيها الدارجة والفصحى ، بل تنوب إحداهما عن الأخرى في الإحاطة ببعض التفاصيل تصويرا وتوصيفا : ” باين عليك ابن حلال… غلطوا فيك…أعطيتهم الشابو… تهريس هذا الأصبع…فليعكر لنا جميعا…” لتندغمان وتنصهران في تتابع سلس ومنساب. إيقاع لغوي تنتظمه بساطة وتلقائية تتوسل بالدارجة والأمازيغية، ورصانة وانتقائية تسمو إلى مقام شعري حافل بصور لا تخلو من إيحاء وتلميح. وتحضر في النصوص إشارات لمصنفات تاريخية وحضارية ومعرفية قد تتجاوز الذكر إلى الاستيحاء والاستلهام كرواية “مدام بوفاري” :”ليس في عربة تذكرك بقصة مدام بوفاري”، أو الكوميديا الإلهية ،أو رسالة الغفران، أو ألف ليلة وليلة …وأسماء بحمولة رمزية وازنة كبارت ،والعروي، والحلاج…وأخرى اقترنت بفتوحات وغزوات تاريخية مشهورة ،في سياق سردي لا يخلو من سخرية قد تثير انطباع المتلقي ،وتخاتل فضوله التأويلي:”مثل ذلك البحر الأبيض الذي لا يمكن عمك طارق من قطعه في بضع ساعات” ، بزخمها البطولي الزاخر بفصول ملحمية خالدة: ” بل هو البحر المحيط. بحر الظلمات. البحر المظلم الذي وقف أمامه عمك موسى قائلا قولته المشهورة”، فرصة لا يفوتها القاص لعقد مقارنة بين شخوص يملكون رصيدا تاريخيا، أو فكريا، أو معرفيا، أو أدبيا غنيا وأصيلا مقابل آخرين يسوخون في أدران العوز، والإهمال والنسيان…وإن كان منهم من يجمعهم الانتماء القبلي أو العرقي كالورياغلي وعلاقته بالخطابي: “هذا الورياغليالقح. سليل آل بنعبد الكريم. ماذا يبغي من كنزه الفرنك فوق الفرنك”، وبالمقابل هناك أسماء لم تنل حظا من العلم والمعرفة بل تنتمي لطبقة اجتماعية دنيا تصرف معاناتها الاجتماعية في مقارعة الخمر، وارتياد المواخير الرخيصة لتفريغ صبوات تتغذى من منسوب تداعيات الفقر والفاقة، ومكابدة مستنزفة مع معيش يومي تتعدد متطلباته، وتتزايد حاجياته:”وبعد أن شرب في خمارة باريز فخمارة العلوي…وسألت عن رقية وقيل لك إنها مشغولة وجيء لك بمن يحل محلها ودخلتما المخدع المعلوم”. أسماء تؤسس لمفارقة طبقية وفكرية ومعرفية…تنشد، بشكل ضمني مشروط برؤية إبداعية، خلق تماه متعدد الأطراف، متنوع الألوان والأشكال من خلال حضوره في عبارات وصفية: “جامدة كأبي الهول. منتفخة كالحلاج”.
ورغم ضيق حيز مجريات الحكي (6 نصوص موزعة على 60صفحة) فإن طبيعة كثافته لمتمنع من غناه بكم ملفت من الشخوص والأمكنة أثثت فضاءاته، وأثرت أبعاده ودلالاته بأمكنة تأرجحت بين ما هو حضاري(أثينا)، وما هو ديني (مكة) وقومي إقليمي (نواكشوط، الجزائر، ليبيا، الخرطوم) ومحلي بالرباط:الأوداية، باب الرواح، باب الحد،حسان، ضريح محمد الخامس…وفاس: الملاح، البطحاء، باب فتوح،جنان سبيل…فضلا عن إيمزورن بالحسيمة. وشخوص بقيمة تاريخية وفكرية باذخة من قبيل عبد الكريم الخطابي وعبد اللهالعروي وبارت والحلاج وطارق بن زياد وموسى بن نصير…مقابل شخصيات عادية مثل الورياغليوبوتقابوت، شاكر وزوجه شقيقة.
ولا يقتصر القاص على ردم الهوة بين تباين قيمة الشخصيات فكريا ومعرفيا، وتجسير تجليات التقابل المحكوم بخلفياته وأبعاده الثقافية والحضارية بل يتعدى ذلك إلى حقول وضعية وأخلاقية: ” فمتى كان الإسلام ضد الفلسفة أو الفلسفة ضد الإسلام؟ أليس تزاوجهما هو الذي أنجب لنا تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت؟”.
ولا تخلو النصوص كذلك من نزعة نقدية لقطاع حساس، يبدو أنه خبر خباياه من خلال مزاولته للتدريس: “كان الأستاذ يشرح المفردات هذا الشرح الترادفي الفقير. وأحيانا بالعامية”. نقد لا يستثني مسؤولية الدولة في تفضيلها فئة المدرسين بمكافآت سخية رغم ما يسببونه من فتن في أوساط المجتمع: ” مع ذلك تأبى الحكومة إلا أن تزيد من رواتب هؤلاء المسؤولين عن إشعال نار الفساد والفتنة في هذه البلاد. أعني بهم هؤلاء الذين يسمون بالأساتذة”. وتصويره لأساليب الاعتقال والتعذيب التي تطال فئة متنورة تنشد تغيير الأوضاع وإصلاحها داخل مجتمع يعاني من اختلالات في تسيير وتدبير الشأن العام:” ضربوني بالمينوت في البار والدروج وداخل السيارة” بتهم ملفقة:” عوض أن يتهموني بالسكر اتهموني بالسرقة وحيازة الحشيش”، والتمادي في طرق التعذيب: “لم يكتفوا هذه المرة بالضرب بل عصبوا عيني وعلقوني في الطيارة”. وطرح القاص أيضا موضوع الهجرة الذي ارتقى بحياة بوتقابوت إلى مستوى اجتماعي ميسور بفضل ما راكمه من ثروات: ” وأخذ يخرج من جيوبه تلك الأوراق السحرية.كميشات. كميشات. زرقاء. خضراء. ذهبية…” مما ولد لديه إحساسا بالغبن تمثل في سوء اختيارمسار حياته : ” لوعملت مثل ما عمل ابن البلدة وصديق الطفولة بوتقابوت وزعمت وهاجرت مثلا إلى بلاد برة لكنت الآن إنسانا آخر”.
وتتضمن الأضمومةأشكالإإبداعية ترفع من منسوب جماليتها، وعمق رؤاها على إغناء النصوص، وتوسيع دائرة الخلق والابتكار في مكونات نسيجها السردي مثل أنسنة الحيوان: ” فإني في حياتي لم أر حيوانا يتكلم…فقال الفأر”. وخوض مغامرة السطو على سيارة إسعاف بإيعاز من تلميذتين بليسي ديكارت والائتمار بأوامرهما:” لكن صوت إحدى الصبيتين ألح: أنت يا ياشفور زد أونضرب لك الطر ها هنا” وخرق هو ومساعده مجموعة من المحطات وسط المدينة بسرعة فائقة. رحلة انتهت بسلام لتضيف لمتن المجموعة طابعا غرائبيا بمنحى ناشز وشاذ لم يمنع من نفي أي علاقة بينها وبين قصة مدام بوفاري: ” ليس في عربة تذكرك بقصة مدام بوفاري”. طابع يحضر، بزخمه التمويهي، في حوار دار بين المدرس شاكر وزوجه المدرسة شفيقة: ” ـ لماذا لا يكون لنا أيضا أطفال؟
ـ وماذا نفعل بالأطفال وكلانا لازال طفلا؟
ـ ألا تتمنى أن تكون مكان ذلك المصباح مثلي؟”.
وما استبد بشاكر من استيهامات في خضم بحثه عن صديقه الذي تلاحقه المخابرات معتقدا بأنه عثرعليه ليتبخر حلم راوده وانجر وراءه بعزم وإصرار إلا أنه أصيب بخيبة وذهول عقب اختفاء صديقه: ” ثم تركني ولحق برجلين كانا هناك بجذع شجرة فسار وسطهم ثم سرعان ما تلاشوا بين الأشجار وأفقت من ذهولي أخيرا … كنت أشعر بوهن جديد ورغبة في البكاء”.
ولا بد من الإقرار بأن قصص “عربة مدام بوفاري” غنية ب”ثيماتها” المتعددة، وآفاقها السردية الواسعة المرهونة برؤية إبداعية ميسمها العمق في أرقى تجلياته وتمظهراته، عبر آليات كتابة تروم خلق أنماط حكي تلملم المفارقات، وتقرب من تباعد وتنافر المتناقضات بتشكيل نسق تماه يشذ عن الثابت والمعهود.
هامش:
“عربة مدام بوفاري” للأمين الخمليشيـي ــ مطبعة المكتبة الوطنية ــ الرباط
بقلم: عبد النبي بزاز