يعود المخرج المغربي سهيل بن بركة (تمبكتو 1942) إلى تناول اشتباك ضفتي المتوسط في فيلمه الجديد “من رمل ونار الحلم المستحيل” 2019. في هذا الفيلم يصل أمير سوري لاجئ إلى طنجة في بداية القرن التاسع عشر ويتصل برجال السلطان المغربي مولاي سليمان، وهكذا تتحسن وضعيته ويعرض خدماته على السلطان.
الأمير هو شخص آخر، مقنّع، إنه ضابط إسباني بأحلام شاعر مهمته التجسس لصالح بلده تمهيدا لاحتلال المغرب عبر استغلال نزاع القبائل لإضعاف السلطان، ومن ثمّة إخضاعه. للقلقين على إحراق قصة الفيلم فهذا اختيار يكشفه المخرج بنفسه منذ الدقائق الأولى. وسبب الكشف هو أن الوقائع التي تم اقتباسها معروفة. وقد استقبل البلاط المغربي أوربيين كثيرين خلال القرن التاسع عشر، أشهرهم يوجين دولاكروا الذي رسم الفارس المغربي.
في الفيلم نرى المغرب من زاويتين:
بعين ضابط استخباراتي تحتفي بالجهل الذي يُسهل نشر الفوضى، وهذا مدخل للسيطرة على المغرب.
بعين شاعر قلق ترصد انحطاط المغرب ثقافيا. يقف الشاعر في مكتبة القرويين على الفئران تلعب فوق كتاب التاريخ الطبيعي لبلين 23م Pline l’Ancien.. يلتقي الشاعر رجال بلاط أميين وعلماء محدودي الأفق يعتبرون أن القرآن أجاب عن كل الأسئلة فانتهى البحث.. تحزن عين الشاعر على شعب يخرج في لحظة الكسوف يردد دعاء “اللطيف” لصد شر ظاهرة فلكية.
كان بنبركة وفيا لنهجه في تصوير المواضيع التاريخية والسياسية، وقد سبق له أن أخرج فيلم “معركة الملوك الثلاثة” 1990 عن اشتباك الضفتين في القرن 16. كان النصر المغربي ساحقا ضد البرتغال، فاحتلتها إسبانيا فورا. للإشارة جرت معركة وادي المخازن سنة 1578، وكان سن سيرفانتيس 31 سنة، لذلك ليس صدفة أن يسخر سنشو وهو المسيحي الصالح من المغاربة في رواية “الدون كيخوته”.
كالعادة، في فيلم بنبركة مشاهد حربية ملحمية مبهجة، فيها حرفية اشتغال عالية. وقد عرض الفيلم خارج مسابقة مهرجان طنجة بمناسبة افتتاح قاعة سينمائية جديدة تحمل اسم “غويا”، على اسم أكبر رسام إسباني في القرن التاسع عشر. للإشارة، في فبراير 1919 فوتت إسبانيا للدولة المغربية مسرح ثيربانتيس الذي بني بطنجة سنة 1913..
في الشهر نفسه زار ملك إسبانيا المغرب. كل هذا للتدليل على حجم اشتباك الضفتين في الماضي والحاضر. لقد كان موقع المغرب مصدر نزاعات ومصدر ثراء حضاري، لذا فإن وجهه مفتوح على أوروبا أكثر من انفتاحه على الشرق. كانت طنجة مقر نزاعات ما حولها إلى مدينة كوسموبولتية. وقد تم تكريس ذلك باتفاقية دولية. وقد صارت المدينة ساحة للدسائس الأجنبية، حتى إن المتنافسين أسسوا جرائد للدفاع عن مصالحهم، فاضطر السلطان أيضا لتأسيس جريدة.
بسبب موقعه الجغرافي، كان المغرب في كماشة. وقد لعب السلاطين على تضارب المصالح الاستعمارية للحفاظ على استقلال المغرب طيلة القرن التاسع عشر. درب البلاط نفسه على شبكة دبلوماسية بغرض اللعب على التنافس بين الدول الاستعمارية، وهي إسبانيا وفرنسا وإنجلترا والإمبراطورية العثمانية..
كلما هاجمته دولة تقرب إلى أخرى. وهكذا أخر السلطان احتلال المغرب حتى 1912، بينما استعمرت الجزائر ثمانين سنة قبل ذلك. بوضع الفيلم في سياقه يبدو أن الجاسوس الإسباني هو نسخة مغربية للورنس العرب، وقد دخل مرحلة الوهم لتغيير المغرب.
في الكثير من لقطات فيلم “من رمل ونار الحلم المستحيل” رسائل مفصلة تُقرأ لتعويض نقص المعلومات عن العصر، وحين لا تقرأ الرسائل تحضر حوارات لاستعراض المعلومات. والحوار مشبع بمفاهيم سياسية ودينية، تجعله حوارا مباشرا خطابيا يليق بأفلام النضال في سبعينيات القرن الماضي، كما في فيلم أموك 1983 لسهيل بنبركة.
حوار مباشر تليه موسيقى تصويرية صاخبة تُملي مشاعر عينة.. موسيقى قوية غير تعبيرية يبدو أنها كانت جاهزة ولم تكتب خصيصا للفيلم.. يستخدم نفس الموسيقى في اللقطات الحربية واللقطات الحميمية، موسيقى برانية دون لمسة مغربية.
رغم كل عناصر قوة الفيلم فإنه يعاني من تشتت مكاني ومن كثرة التصوير الداخلي. نرى السياسة وهي تمارس في القصور فقط.. لا يجري فيلم تاريخي في صالون. لا مكان للناس العاديين في الفيلم، غالبا ما يظهر الشعب كقطيع يردد الشعارات، وذلك في لقطات عامة جماعية تفتقر إلى التفاصيل. من شاهد فيلم “وداعا بونابرت” 1985 ليوسف شاهين سيلاحظ مدى حضور الشعب المصري.
يظهر التشتت المكاني في النصف الثاني للفيلم خاصة، إذ تجري الأحداث في أمكنة جد متباعدة، ويظهر البطل في فاس وطنجة وباريس ولندن ومدريد ودمشق في مشاهد متتابعة، كأن التنقل في 1804 يشبه التنقل في 2019.
بل إن المساحة المخصصة لباريس ومدريد أكبر من تلك المخصصة لفاس وطنجة. ونتيجة للمساحة وللتنقل يضمُر حضور المغرب وتضعف وجهة نظر المخرج الذي يفترض أنه يسرد من موقع ووجهة نظر مغربية. بدلا منها تحضر نظرة برانية تظهر مغرب القرن التاسع بعموميات فلكلورية. بل هناك فرق حتى في جودة تصوير لقطات طنجة ولقطات باريس.. هل هذا من أثر التمويل الأجنبي للفيلم؟.
لقد قدم بنبركة فيلما قويا بصريا، وأدار ممثليه بحرفية، وهم من مستوى عال.. ممثلون أجانب في معظمهم مثل رودولفو سانشو Rodolfo Sancho (الأمير الجاسوس) وكارولين كرسنتيني Carolina Crescentini (العشيقة الأنجليزية). الشخصيات الخمس الرئيسية في الفيلم أروبية، ومثلها أجانب. نجد الممثلين المغاربة في أدوار ثانوية، نجد حميد باسكيط وعمر العزوزي الذي ظهر في مستوى جيد لأن المخرج استخرج منه أشياء لم تظهر لديه في أفلام سابقة، يبدو فيها دائما أقرب لدرويش متسول حتى حين يمثل دور رجل أعمال.
على صعيد الأداء دائما نجد أن بعض اللقطات صورت بسرعة، لذا يبدو الممثل وكأنه يستعرض كما في لقطة الملك الإسباني يقرر مصير الجاسوس. أداء مبالغ فيه لحبيبة البطل الإنجليزية التي تعيش مراهقة في سن الأربعين، لذا تسيل دموعها في كل لقطة. هذا على مستوى الأداء أما على صعيد تغير الشخصيات فقد صور بنبركة اللقطة الأولى والأخيرة من لقاء الحبيبين ووداعهما في نفس اليوم بسبب ضرورات الإنتاج. لكن سرديا مرت أربعة عشر عاما بين اللقاءين.
ويفترض أن يترك هذا الفاصل الزمني بصمته على الملامح واللباس والنبرة. الغريب أن الحبيبة ذات الأداء العاطفي المفرط تصير فجأة زعيمة سياسية صلبة بأداء مذهل في الربع الأخير من الفيلم، وهكذا خصص المخرج مقطعا كبيرا من فيلمه لموضوع ثان، وهو البطلة في سوريا. وهذا يذكر بأسلوب الرواية التاريخية لدى جرجي زيدان: نترك هؤلاء هنا ونتابع الآخرين هناك.
> محمد بنعزيز