موقع دار محمد بلغازي الزموري بإقليم الخميسات

تطفح منطقة الخميسات بحكم موقعها الجيوـ استراتيجي بمؤهلات أثرية، ومعالم عمرانية، ومظاهر حضارية تهم مختلف الحقب التاريخية، بعضها يعود إلى عصر ما قبل التاريخ، وبعضها الآخر يحمل بصمة الحقبة القديمة، وبعضها الثالث يستمد هويته من المرحلة الإسلامية.
بيد أن كثيرا من المؤهلات والمظاهر تمور إحداثياتها تحت إسار الحيف المتعمد، والابتسار المقصود.
والأنكى في الأمر أن بعضها أصبح أثرا بعد عين، أو مجرد اسم في ثنايا المادة التاريخية ليس إلا.
من هذا المنظور تروم الورقة التالية إثارة الانتباه إلى ما تزخر به منطقة الخميسات من مؤهلات تاريخية، وفي ذات الآن رفع حجاب العتمة والإهمال عن معلمة أثرية تُعرف في مصادر القرن 19م، بدار ابن الغازي.
عرفت دار بلغازي بهذا الاسم في المرجعيات التاريخية منذ تشييدها مطلع القرن 19 م، يؤيد ذلك ويدعمه ما ذكره صاحب الإستقصا قائلا ” ثم رحل السلطان مولاي عبد الرحمن، ونزل تيفلت، وأقام أياما، ثم تقدم إلى دار ابن الغازي ” (ج 9 ص 59)، ثم أصبح اسمها يعرف بعدئذ في الروايات الشفاهية تحت اسم المنزه أو تاغزوت. ولا غرو فالمنزه كناية على مساحة من الأرض تعج بمختلف أنواع النباتات من الأزهار والأشجار ، ويؤدي وظيفة جمالية غايتها الترويح عن النفس ، والخلود للراحة ، والتمتع بجمال الطبيعة.
وتاغزوت عبارة عن أرض منخفضة ومشجرة ، وكثيرة الغياض.
والملاحظ أن اسم المنزه أو تاغزوت يطابق تمام الانطباق طوبوغرافية الموقع الذي يشتهر بوفرة موارده المائية، وكثرة بساتينه، وتنوع أشجاره.
أما فيما يخص موقع دار بالغازي، فقد تبين من الزيارات الميدانية أنه ينتصب في موضع حصين ومنيع بين ربوتين يتوسطهما وادي التفاوتي على ضفته اليسرى، وهو موضع يبعد بما يقارب 6 كلم عن مدينة الخميسات شمالا، وبحوالي 1كلم ونصف عن دار العمالة، ضمن الجماعة الترابية آيت عبو، حيث الطريق السلطاني الذي يربط الرباط بمكناس، وفي منطقة تكتسي أهمية استراتيجية بالنسبة لمراقبة تحركات القبائل البربرية،وضمان أمن وسلامة الممرات والمسالك التجارية، وتعزيز نفود المخزن العلوي، وتحصيل المستحقات الجبائية.
وقد ارتبط اسم الموقع بالقائد الحاج محمد بلغازي الزموري، الذي تصنفه المدونات التاريخية بأنه أحد أشهر أعيان زمور التي يدور حولها أمر البربر كلمة ورياسة على عهد السلطانين مولاي سليمان ومولاي عبد الرحمن.
ففي عهد السلطان مولاي سليمان أصبح محمد بلغازي سيدا كبيرا في زمور وبني حكم وأعظم البربر حظوة ومكانة لدى المخزن العلوي كاستشارته من طرف أهل فاس في أمر البيعة ومشاركته في الحملات التأديبية التي همت قبيلتي كروان وورديغة، ليسطع نجمه ونفوذه وسطوته عقب وقعة ظيان (زيان) 1234 هـ /1819م التي جر من خلالها الهزيمة على المخزن السليماني وسقوط هيبته من قلوب الرعية، فلم يمتثل له بعده أمر في عصاتها.
أما على عهد السلطان مولاي عبد الرحمن، فقد توطدت وتعززت سطوته التقريرية وشوكته السلطوية إذ أفاض عليه السلطان سجال الامتنان وجعله عمدة آرائه ومستند أموره من أمامه وورائه بعدما سرح له شيخه مولاي العربي الدرقاوي ـ الذي يدين بالولاء والتشيع لطريقته ـ ورفع بذلك قدره وشرح صدره. ومن مبالغة السلطان في الإحسان إلى ابن الغازي أنه زوجه بإحدى حظايا عمه السلطان سليمان وهي ابنة القائد عمر بن أبي ستة، فعلى قدره بالدولة بدلك واطمأن إلى السلطان بعد أن كان يسايره، وذهب معه إلى مراكش مرتين.
إلا أنه في سنة 1824 م/1239 هـ، انفرطت علاقة بلغازي بالمخزن الرحماني يؤيد ذلك ما ذكره صاحب الإستقصا قائلا كانت للقائد بلغازي دالة على السلطان تجاوزت الحد الذي ينبغي أن تسير به الرعية مع الملوك، وكانت عادته أن يحضر بالغداة والعشي إلى باب السلطان كغيره من كبار الدولة ووجوهها على العادة فلما كان في بعض الليالي وهو راجع إلى منزله رصده أحد العبيد بالطريق فرماه برصاصة فأخطأه فوصل إلى منزله وقد ارتاب بالسلطان.فمن دونه من أهل الدولة وحملته دالته على أن أطلق لسانه وأبرق وأرعد وبلغ ذلك السلطان فأغض له عنها ثم أفضى به التهور إلى أن انقطع عن الحضور بباب السلطان غضبا على الدولة، فأطال له السلطان الرسن كي يرجع فلم يرجع وبلغ السلطان أنه يحتال في القرار فعاجله بالقبض عليه، وبعثه إلى جزيرة الصويرة التي هي سجن أهل الجرائم العظام، فسجن بها مدة ثم أصبح ذات يوم ميتا وذلك في سنة 1240 هـ /1825 م.
على كل حال توج تعيين بلغازي الزموري قائدا على اتحادية زمور من التوقيع على شهادة بداية استقرار هذا التجمع القبلي بالمنطقة التي تقطنها حاليا إثر طرد قبيلة بني احسن حتى وسط المعمورة، ولتأكيد نصره شيد القايد لنفسه دارا لا تزال أطلالها قائمة على ضفاف وادي التفاوتي رافد وادي مرسلات وذلك أوائل القرن 19 م. هذا وتتكون تلك الدار المنشأة من جناحين، جناح يحادي وادي التفاوتي، وجناح بجوار قبة الولي سيدي البخاري تفصل بينهما مسافة تقدر بحوالي 100متر.
شيد الجناح الأول على ضفاف وادي التفاوتي، ويمتد على مسافة تقدر بحوالي 8000 متر مربع منها 400متر مربع مخصصة لمقر اجتماع القائد وأعضاء الجماعة، وممثلي الفرق القبلية للبت في القضايا المدنية والجنائية، وإبرام التحالفات وإعلان الحرب والسلم. و2000 متر مربع مساحة السجن، الذي يشرف على تنظيم مرافقه المدعو العبابري، أصله من بني حسن. والمساحة المتبقية مخصصة لسوق أسبوعي صغير ينعقد يومي الأربعاء والسبت.
إنها مرافق تحف مداراتها وجنباتها شتى أنواع الأشجار المثمرة: كالزيتون والسفرجل والتين والكروم والرمان والصبار، ناهيك عن بحائر تحتضن أنواع مختلفة من الخضروات تسقى بمياه النهر عبر قنوات تتصل به مباشرة.
أما الجناح الثاني فقد بني بمحاذاة قبة الولي سيدي البخاري، ويمتدعلى مساحة تقدر بحوالي 4000 متر مربع، عبارة عن مجموعة من الغرف موزعة على نساء وأبناء وخدم وحشم القائد، ثم بنايات ذات طابع ديني مثل الزاوية والمسجد، إضافة إلى أجنحة خاصة موجهة لاستقبال سلاطين وأمراء وأعيان الدولة العلوية.
كما لا ينبغي أن يغرب عن البال أن الربوة اليسرى لوادي التفاوتي ينتصب فوق سطحها برج للمراقبة يهدف إلى ضبط حركة الذهاب والإياب على امتداد الطريق السلطاني، وضمان الأمن والاستقرار الداخلي.
خلاصة الكلام، تعد دار أبن الغازي معلمة تاريخية، ورصيدا أثريا تحتاج إلى من يعيد لها بريقها وتوهجها، وترميم وصيانة ما تبقى من أطلالها ضمن رؤية تنموية، ومقاربة مندمجة تراهن على إبراز الخصوصيات الثقافية والحضارية للمنطقة.

ملحوظة:

يتكون فريق البحث من الأساتذة:
د. مولودعشاق وذ. محمد بايشيت وذ. أيوبمارو

د مولود عشاق

Related posts

Top