حكايات عديدة نسجت في كل مراحل التاريخ عن طبيعة المرأة الفيزيولوجية والبيولوجية واعتبار هذه «الطبيعة» محددا لتدني مكانتها في المجتمع قياسا بموقع الرجل فيه. وقد كان حيفا كبيرا في العديد من مراحل التاريخ البشري أن يُزج بالمرأة، فقط لأنها امرأة، في الدرك الأسفل من المجتمع. لقد كانت المرأة وما تزال ضحية الذهنية الذكورية التي تجعل منها كائنا لا يستقيم إلا بتبعيتها للرجل وموالاتها له، ولهذا، فالأدوار الأساسية والمناصب ذات الحساسية في أي مجتمع كانت وما تزال تسند، في عمومها، إلى الرجل ولا يُلتفت إلى المرأة حتى ولو كانت كفاءتها وأهليتها العلمية تؤهلها لتحمل المسؤولية والوصول إلى مراكز القرار السياسي إسوة بالرجل. من قلب هذه المعاناة التاريخية للمرأة، جراء إقصائها الظالم، يظهر بين الحين والآخر الاستثناء الذي معه تتبوأ المرأة مناصب عليا قد تكون بالغة الحساسية في بعض الأحيان، كما تبرهن على ندّيتها للرجل، وتدحض بذلك كل «الحجج» أو الادعاءات التي تتدرع بها عقلية الذكورة من أجل تثبيت دونيتها. وإنصافا للمرأة من ظلم التاريخ، نورد في ما يلي نماذج من هؤلاء اللواتي كسرن ادعاءات الرجل بشأنهن، بوصولهن لمناصب النخبة والقرارات السياسية في بلدانهن.
ميشال باشليت (29 سبتمبر 1951)، رئيسة تشيلي من 11 مارس 2006 إلى 11 مارس 2010. فازت بفترة رئاسية ثانية بعد الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 2013.
نقدم هذه المقالة التي كتبتها كارين كالابريا وهي جزء من كتاب المرأة في العالم اليوم، الذي نشره مكتب برامج الإعلام الخارجي في وزارة الخارجية الأميركية، للتعريف بشخصية هذه المرأة التي ترأس منظمة نساء الأمم المتحدة، وهي منظمة تشجع على تمكين المرأة.
الشجاعة والالتزام دفعت طبيبة لتصبح أول امرأة ترأس دولة
باشليه أم لثلاثة أولاد مطلقة، مغنية شعبية هاوية، ورئيسة منتخبة ديمقراطيًا لدولة من أميركا الجنوبية، لم تدع أبدًا هذه التناقضات تردعها عن خوض غمار السياسة. بل أنها خلقت لنفسها إرثًا لها من تلك الصفات في الواقع.
صرحت باشليه لصحيفة نيويورك تايمز: ” لقد فتحنا النوافذ والأبواب لإتاحة دخول الناس العاديين، وشجعناهم على المشاركة”، خلال تأملها في النواحي المتحطمة من ماضيها والتي التأمت والتحمت سوية لتؤمن لها الفوز بالرئاسة التشيلية.
إنها سجينة سياسية تحولت إلى الخدمة العامة، كوزيرة في الحكومة وثم كرئيسة لدولة تشيلي، عملت على إنشاء ديمقراطية مستقرة خلال المرحلة الانتقالية من الديكتاتورية العسكرية الوحشية للجنرال أوغستو بينوشيه.
وهي طبيبة، متخصصة في علم الأوبئة وطب الأطفال، تملك قدرة على شفاء الأمراض تماثل، إن لم تتجاوز، مهارتها في الاستراتيجية العسكرية. درست الاستراتيجية العسكرية في الأكاديمية الوطنية للدراسات الاستراتيجية والسياسة في تشيلي وفي كلية الدفاع للبلدان الأميركية في واشنطن العاصمة. وبرزت في أول محاولة انتخابية لها لتفوز بأعلى منصب سياسي في البلاد، وخرجت من السباق كأول امرأة تنتخب رئيسة في تشيلي.
ومع بلوغها التاسعة والخمسين من عمرها، لا يبدو أن باشليه قد بلغت الشوط النهائي من حياتها المهنية على الإطلاق. فقد عُيّنت مؤخرًا كأول رئيسة لوكالة الأمم المتحدة الجديدة، منظمة نساء الأمم المتحدة، وهي تواصل بناء إرثها -وهذه المرة بوصفها إحدى أبرز الناشطات في العالم حول المساواة بين الجنسين.
قالت خلال مقابلة لها مع باربرا كروسيت، نُشرت في المجلة “ذي نايشين”: “لقد تعلمت في عائلتي أن كل الناس يجب أن يكونوا متساوين في التمكن من الحصول على الفرص، وأن العدالة أمر ضروري، وأن الكرامة أمر ضروري. ولذا فإن هذا الإيمان بحقوق الناس موجود في صميم الحمض النووي المتغلغل في بنياني، وأؤمن بأننا جميعًا مختلفون، وبأن ذلك شيء عظيم لكونه يجعل هذا العالم أكثر إثارة للاهتمام”.
الثبات على المبادئ رغم الصعوبات
لقد تعرضت مثلها العليا لأول تجربة لها – وأكثرها صعوبة – خلال عملية عام 1973 للإطاحة بالرئيس سلفادور أيندي آنذاك على يد القائد العسكري القوي بينوشيه. فاعتقل والدها، وكان ضابطًا رفيع المستوى في سلاح الجو ذا مكانة بارزة في حكومة أيندي، واحتجز في السجن العسكري بتهمة الخيانة. تعرض للتعذيب، ونتيجة لذلك توفي لاحقًا بسكتة قلبية.
لم تدع باشليه لذلك أن يردعها عن مشاركتها السياسية. وبدلاً من ذلك، كثّفت التزاماتها كعضو في حركة الشباب الاشتراكي. إلا أن أنشطتها تقلصت عندما احتُجزت هي ووالدتها في مراكز التعذيب على يد نظام بينوشيه قبل أن تفر من البلاد إلى أستراليا في عام 1975.
وعلى الرغم مما عانته في سنوات انخراطها المبكرة في العمل السياسي، قامت باشليه بجهود متضافرة لمعالجة عدم المساواة في مجتمع تشيلي. وبصفتها وزيرة للصحة، المنصب الذي تولته في عام 2000، في عهد الرئيس ريكاردو لاغوس، حسنّت فرص الوصول إلى الرعاية الصحية العامة. وفي عام 2002 كانت أول امرأة في أميركا اللاتينية تُعين وزيرة للدفاع. وخلال فترة توليها لهذا المنصب عززت المصالحة بين الجيش والمجتمع المدني، وعكفت على إصلاح وتحديث الجيش التشيلي.
وأعلنت باشليه في خطاب النصر بعد فوزها في الانتخابات الرئاسية عام 2006، فقالت: “لأنني كنت ضحية الكراهية، فقد كرست حياتي لتحويل الكراهية إلى تفاهم وتسامح، ولما لا أقول ذلك… إلى المحبّة”.
وعلى الرغم من أنها بدأت حياتها المهنية كطبيبة، وارتقت بسرعة لتصبح وزيرة للصحة، فلم تتمكن باشليه من التخلص من التأثير الدائم لخلفية والدها العسكرية.
إرادة كبيرة في نشر الديمقراطية والتمكين للمرأة
كشفت لصحيفة الغارديان قصة الدراسات العليا التي تابعتها في مجال العلوم العسكرية، والتي أدت في نهاية المطاف إلى تعيينها كأول وزيرة للدفاع في تشيلي عام 2002. قالت: “لقد لاحظت أن إحدى العوائق التي تَحول دون نشر الديمقراطية الكاملة كانت غياب التفاهم بين العالمين العسكري والمدني. العالمان يتكلمان لغتين مختلفتين. وأردت أن أساعد في حلّ ذلك الأمر….. في أن أكون جسرًا بين هذين العالمين.”
وعلى الرغم من كل النجاحات التي حققتها، إلا أن باشليه لم تسلم من الانتقادات، فقد واجهت انتقادات لاذعة بسبب سياسة التعليم التي انتهجتها، وبسبب فشل خطة النقل العام الطموحة التي أطلقتها، وبسبب سلسلة من النزاعات العمالية التي لا نهاية لها. إلا أن نسبة تأييدها كانت الأعلى من أي رئيس في تاريخ تشيلي، إذ سجلت نسبة تأييد بلغت 84 بالمئة عندما غادرت منصبها في مارس عام 2010.
ومع ذلك، يبدو أنه ليس هناك أي قدر من النجاح يمكنه أن يقلل من عزمها المعقود على المضي قُدما في مهمتها التالية. ففي يوليو 2010، عيّنها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون كأول رئيسة للوكالة الجديدة التي أنشأتها الأمم المتحدة، منظمة نساء الأمم المتحدة.
وبعد وقت قصير من تعيينها، بثت إذاعة الأمم المتحدة مقابلة لم تتردد باشليه فيها من توضيح بعض الصعوبات التي تواجهها في دورها الجديد، فقالت: ” في مناطق عديدة من العالم، تواجه النساء وضعًا صعبًا للغاية. فلا تتوفر لهن نفس الفرص المتاحة للرجال فيما يتعلق بالحقوق الإنسانية الأكثر أهمية، إنهن يتعرضن للتمييز الممارس ضد النساء، وتُنتهك حقوقهن. ولا تزال هناك بعض الأماكن التي تشوّه فيها النساء. ولذا فإنني على اقتناع بأننا بحاجة إلى العمل بجد لتحسين أوضاعهن، وأعرف أن هذا … عمل صعب للغاية.”
وعلى الرغم من الإرث الذي سبق أن خلقته لنفسها كإحدى رئيسات الدول في العالم، فلا تزال باشليه ملتزمة برؤيتها حول نشوء مستقبل أفضل، وذلك بصفتها شابة مثالية تمكنت من الوقوف لتواجه نفس النظام القمعي الذي قتل والدها.
اعداد: سعيد ايت اومزيد