“هَمْسُ الطفولة” في رواية ” طيف سبيبة” للروائية المغربية لطيفة لبصير

“طيف سبيبة” تجربة روائية متفردة، تلامس القلوب وتدعو إلى التأمل في عمق العلاقات الإنسانية، إنها عمل روائي إبداعي تعاضدتْ فيه أطياف السرد وعوالم التخييل، وتُعدّ رواية “طيف سبيبة” للروائية المغربية لطيفة لبصير رحلةً ساحرة سافرنا من خلالها إلى عوالم الطفولة، حيث تأخذنا الرواية في رحلة مُتقنة عبر محطات مؤلمة ومفرحة، وتتبدى قوة الإرادة في مواجهة التحديات، كما تنسج خيوطًا من المشاعر والتجارب التي تعكس جوهر الإنسانية، وتستكشف الرواية عمق الاختلاف والطمأنينة، مُظهرةً كيف يمكن لتجارب الطفولة أن تكون مليئة بالتحديات والجمال في آنٍ واحد.

تدور أحداث الرواية في فضاء يتسم بنوع من الدفء والانفعالات البريئة، حيث تنكشف أمامنا عوالم الأطفال الغنية بالألوان والأحلام، تُسلط الرواية الضوء على كيفية تعامل الأطفال مع مشاعر الفقد والحنين، وكيف يمكن لدمية بسيطة أن تصبح رمزًا للأمان والصداقة في أوقات الشك والقلق، هذه العلاقات تَكشِفُ عن عمق الفهم الذي يمتلكه الأطفال، رغم بساطة تعبيراتهم.

تتميز الرواية بأسلوبها السردي الذي يحمل في طياته أصواتا ينبغي احتضانها، كما احتضنتها لطيفة لبصير في هذا العمل الروائي، حيث ينتشي القارئ بدفء التفاصيل الحسية المختزَنة في اللغة وذاكرة الأمكنة وسلطة الأزمنة، مما يجعل القارئ جزءا مهما من هذه العوالم، إذ تنتقل بسلاسة بين لحظات الفرح والحزن، وتُظهر كيف يمكن للاختلاف أن يُثري الحياة، بدلاً من أن يكون سببًا للتهميش.

لذلك؛ فهذا العمل الإبداعي “طيف سبيبة” ليس مجرد رواية تعالج “طيف التوحد”، بل هي دعوة لليافعين لإعادة اكتشاف براءة الطفولة وفهم تعقيداتها، ويمكن القول إن هذه الرواية جعلت القارئ يتأمل في تجاربه الخاصة، وتدعوه للتفكير في عوالم الطفولة والتأمل في تفاصيلها.

سنحاول، من خلال هذه القراءة، الكشف عن تجليات همس الطفولة في الرواية وما يميزه من تفرّد واختلاف، جاء في الرواية قول هبة أخت راجي: “… كما لم أفهم طبيعة أخي راجي المختلفة تماما عن طبائعنا نحن الأطفال، ثم أدركت مع الأيام أن راجي طفل مختلف، خاصة يوم انتزع مني دميتي سبيبة” ص07.

تعبر هبة عن عدم فهمها لطبيعة أخيها راجي، مما يشير إلى تباين في التجارب والمشاعر بين الأطفال، يعكس هذا الجهل التحديات التي يواجهها الأفراد في فهم بعضهم البعض، خصوصًا في حالات مثل التوحد، وعبارة “طفل مختلف” تدل على إدراك هبة لخصوصية راجي، هذه الخصوصية تشير إلى الفجوة بين عالمها وعالم أخيها، أما الدمية سَبيبة فهي رمز للبراءة والطفولة والاحتواء، كما أن إدراك هبة لحالة راجي يظهر وعيا واهتماما واضحا بحالة أخيها، هذا الوعي يُظهر نموها العاطفي والعقلي، ويعكس صراعا داخليا بين الحب والعجز في فهم الاختلاف.

إن هذا المقطع يعكس عمق العلاقات الأسرية وكيف تؤثر هذه الاختلافات على الطبع والسلوك وعلى التفاعل بين الأفراد، إن إدراك هبة لاختلاف أخيها، وتفاعلها مع موقف فقدان دميتها، يجسد الصراعات الداخلية والتحديات التي يواجهها الأطفال في علاقتهم بمحيطهم.

جاء في الصفحة 24 على لسان هبة: “كنت أصرخ وهو يتبعني وتختلط الأصوات ولا ينتهي ذلك إلا حين يعلو صوت ماما هي أيضا، فيرتبك راجي ويعلو صوته أكثر في الأخير وسط صعقتنا التامة، فنلوذ بالصمت كي يعود إلى طبيعته الاعتيادية”.

لطيفة لبصير

يبدأ المقطع بوصف هبة للصراخ، مما يعكس حالة الفوضى والتوتر، وتداخل الأصوات، هنا، يشير إلى صعوبة التواصل بين الشخصيات، وهو ما يُعبر عن التحديات النفسية التي تواجهها هبة وراجي، كما أن تدخل صوت الأم شكّل لحظة فارقة ومحورية، فهو مؤشر مهم في فهم شخصية راجي الذي شعر بالارتباك بعد تدخل الأم، وهذا يظهر أن للأمهات دور في إدارة التوتر، أو في جعل صوتهن مصدرًا للضغط على الأطفال، وتدل عبارة “نلوذ بالصمت” على البحث عن الهدوء والاستقرار، كما تُظهر الصمت كوسيلة للهروب من الصراع.

ومن بين تجليات همس الطفولة في الرواية ما جاء في الصفحة 92:

“راجي يمد يده إلى الطبق ويطعم سبيبة وهو يقول: سبيبة ستذهب إلى المدرسة… سبيبة……. كان راجي يعيد الجملة كل حين… فصرخت المُدرِّسة في وجهه بقوة في ذلك الصباح: راجي، أصمت… راجي أصمت… انتفض راجي بقوة كأنه يسمع أصواتا أعلى من المعتاد… وبدأ يضرب برأسه بأقصى قوة على الطاولة، وفجأة تحول إلى عملاق شبيه بعمالقة الكارتون…”.

في هذا المقطع، تم تصوير التحديات النفسية والسلوكية التي يواجهها راجي في بيئة مدرسية غير متفهمة، فتكرار جملة “سبيبة ستذهب إلى المدرسة” يبرز محاولة راجي في التعبير عن ذاته ورغبته في التواصل، هذا التكرار يمكن أن يُفهم بأنه محاولة لتأكيد الانتماء والهوية، لكنه أيضًا يُعبر عن عدم قدرته على التأقلم مع الوضع والمحيط.

إن تدخل المُدرِّسة بصُراخها يدل على عدم تفهمها لحالة راجي، مما يسلط الضوء على قضايا التواصل الفعال والإيجابي المُفتقد، بل يمكن القول إن لطيفة لبصير تدعو إلى إعادة النظر في المنظومة التواصلية المَدرسية، لأن انتفاض راجي نتيجة صراخ المُدرِّسة يدل على حساسية مفرطة للأصوات، وهو ما يُعد سِمة شائعة في حالات التوحد، هذه الحساسية تُظهر الفجوة بين عالمه الداخلي، الذي يتسم بالفوضى والقلق، وعالم الآخرين، الذي يتسم بالتحكم والقسوة.

فتشبيه راجي بـ”عملاق شبيه بعمالقة الكارتون” يحمل دلالات رمزية، هذا التشبيه يُعبر عن استجابته العنيفة لظروف العالم الخارجي، حيث يوضح تجليات الإحباط والضغط النفسي جرّاء تصرفات تأتي في صورة يطبعها العنف والرغبة في الثأر، وبذلك، تقدم الرواية نقدًا للجهات المهتمة بالتربية التي تفشل، أحيانا، في احتواء الاختلاف، مما يؤدي إلى تعزيز الإقصاء والفوضى النفسية.

في السياق ذاته، لاحظنا أن الرواية تقدم صورة بريئة حول العالم الداخلي لراجي، يتجلى ذلك في قول السارد: “مر وقت طويل وراجي غارق تماما في معمله الصغير وكأنه بصدد إنجاز شيء لا نعرفه” ص 116.

وهذا يشير إلى حالة من الانغماس العميق التي يعيشها راجي، هذه الصورة تعكس رغبته في الانعزال عن العالم الخارجي، مما يدل على أن أسلوبه في التعامل مع التوترات من خلال الانشغال والانغماس في نشاط يتيح له الشعور بالراحة أو السيطرة همس من همسات الطفولة التي ينبغي التفاعل معها، فهذا المقطع يُبرز عمق التجربة الذاتية لراجي، وهذه الحالة من الغموض تؤكد أن الانعزال وسيلة للهروب أو التعبير عن الذات، مما يعكس التحديات النفسية التي يصارعها في تفاعلاته اليومية. إن رواية “طيف سبيبة” أظهرت بشكل جَلي قدرة الكاتبة على معالجة موضوع التوحد بأسلوب سردي متماسك ومتناغم، مما يُسهم بفعالية في تعزيز الوعي حول هذه القضية الإنسانية، وذلك من خلال تجسيد الصراعات الداخلية والتحديات التي تواجهها الشخصيات، خاصة هبة وراجي، إذ تبرز الرواية الهُوّة القائمة بين عوالم الأطفال الداخلية وعالم المحيطين بهم.

لقد تمكنت الرواية من تقديم صورة مختلفة عن قيمة الاختلاف، باعتبارها صوتا من أصوات الطفولة البريئة والمفتقدة، ومن خلال استكشاف العلاقات بين الشخصيات تؤكد “طيف سبيبة” على أهمية الحب والتقبل كعناصر حيوية لفهم التجارب الفريدة التي يعيشها الأفراد، لاسيما الأطفال، مما يسهم في تفكيك الصور النمطية السلبية المرتبطة بالتوحد.

علاوة على ذلك، تَرومُ الكاتبة، عبر أسلوبها السردي المتفرد، جعلَ “التوحد” فرصة للتواصل العميق والتعاطف الإنساني، إذ إن “طيف سبيبة” ليست مجرد سرد لتجارب شخصية، بل هي دعوة إنسانية وثقافية مفتوحة للحوار المجتمعي حول قضايا التوحد، مما يجعلها نصًا غنيًا بفرص التأويل والمساءلة.

ختاما، نشير إلى أن الكاتبة والروائية المغربية لطيفة لبصير في روايتها “طيف سبيبة” تدعو إلى ضرورة نشر ثقافة التقبُّل والوعي والاحتضان، وتؤمن بقدرة هذه الثقافة على إحداث تغيير جوهري في حياة الأفراد، مما يعزز من فرص التواصل الفعال والإيجابي، إن “طيف سبيبة” تجربة روائية إبداعية تفتح آفاقًا جديدة لفهم التعقيدات الإنسانية والتفاعل العاطفي، مما يجعلها عملًا أدبيًا يستحق القراءة والتأمل، وليست مجرد قصة تُروى، بل هي تجربة عميقة تأسر القلوب وتثير العقول، حيث تمتزج الأحداث، الشخصيات، الأزمنة والأمكنة لتُشكل لوحة فنية تعكس جمال الإنسانية بكل تناقضاتها.

لقد تمكنت لطيفة لبصير في  “طيف سبيبة” من تحويل تجربة التوحد إلى سردٍ مفعم بالأمل، مما يعكس قدرة الأدب عموما والرواية خصوصا على تغيير المفاهيم والمواقف تجاه العالم وما يعتريه من تناقضات، وبذلك، فهذه الرواية تجاوزت حدود الكتابة الأدبية، لتدخل عوالم الفكر والشعور، مما يجعلها تجربة روائية مختلفة وغنية ومؤثرة.

بقلم: المُبَاريك النكادي

المُبَاريك النكادي (الدار البيضاء، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك)

Top