وردة النّار

1

    تحكي الأحداث التاريخية أنه عندما وصل صانِع المتاهات إلى برشلونة على متن سفينة قادمة من الشرق، حمل معه  جرثومة اللعنة التي سوف تلوث سماء المدينة بالنار والدم.

مرَّ عام 1454 المُنَعَّم، وحلَّ بعده وباء الحُمى الذي أهلك السكان خلال فصل الشتاء، تاركًا المدينة متدثِّرة بغطاء من دخان أصفر يميل إلى البُنّي الذي تصاعد من النيران حيث احترقت جثث وأكفان مئات القتلى. يُمكن رؤية دوامة من الأبخرة العفنة من مسافة بعيدة، وهي تزحف بين الأبراج والقصور لترتفع كنذير جنائزي يُحذِّر المسافرين من الاقتراب من الأسوار والمرور بالقرب منها. كانت الغرفة المقدسة قد أصدرت مرسومًا بإغلاق المدينة، وحدَّدت التحقيقات التي أجراها أن الطاعون قد نشأ في بئر بالقرب من الحي اليهودي في شارع سانوخا، حيث تمَّ تدبير مؤامرة شيطانية لمُرابين ساميين بتسميم المياه، ذلك ما أثبتته الاستنطاقات الحديدية بما لا يدع مجالاً للشك. وبعد مصادرة ممتلكاتهم الضخمة وإلقاء ما تبقى من رفاتهم في حفرة مستنقع، بقي فقط الأمل في أن تُعيد صلوات المواطنين الصالحين بَركة الرّب إلى برشلونة. مع مرور الأيام، بدأ يقِلُّ عدد الأموات وشَعر الكثير من النّاس أن الأسوأ أصبح وراءً. لكن القدر أراد أن يكون السابقون أكثر حظًّا واللاحقون يحسدون أولئك الذين غادروا وادي البؤس. إلى أن تجرَّأ صوت خافِت على الإشارة إلى أن عقوبة كبيرة ستسقط من السماء لتطهير وصمة العار الذي ارتُكب في ساحة تنصيب الرب ضد التجار اليهود، لكن كان الأوان قد فات. فلم يعد يسقط من السماء إلا الرماد والغبار. فقد جاء الشر هذه المرّة عن طريق البحر.

2

شوهِدت السفينة عند الفجر. ورأى بعض الصيّادين الذين كانوا يُصلحون شباكهم أمام سور البحر أنها تخرج من بين الضَّباب يحملها مد البحر. عندما جنحت مقدمة السفينة على الشاطئ ومال هيكلها إلى اليسار، تسلَّق الصيادون على ظهرها. رائحة قوية انبعثت من أحشاء السفينة. غمرت المياه القبو وطفَت عشرات التوابيت من بين الأنقاض. عثروا على السيِّد إدموند دي لونا، صانع المتاهات والناجي الوحيد للرحلة، مُقيَّدًا بعجلة القيادة وقد أحرقته الشَّمس. في البداية ظنوا أنه ميت، ولكن عند فحصه وجدوا أن معصميه لا يزالان ينزفان تحت القيود وأن من بين شفتيه كان ينبعث نفس بارد.  

كان يحمل كُنّاشا جِلديًا على حزامه، لكن لم يتمكن أي من الصيادين من انتزاعه، لأنه في نفس الوقت كانت مجموعة من الجنود قد ظهرت في الميناء، حيث كان قبطانهم يتلقى الأوامر، من قصر الأسقفية، بوصول السفينة. أمرَ القبطان بنقل الرجل المحتضر إلى مستشفى القدّيسة مارثا القريب وأرسل رجاله لحراسة حطام السفينة إلى حين وصول مسؤولي المكتب المقدس لتفتيشها وتوضيح ما حدث على الوجه المسيحي للأمر. تَمَّ تسليم كُنّاش ملاحظات إدموند دي لونا إلى المُحقق الكبير خورخي دي ليون، فارس الكنيسة اللامع والطَّموح الذي كان يأمل أن يكتسب في أقرب وقت، جرّاء جهوده لتنقية العالم مكانة تقي، قدّيس والنور المتَّقِدة بالإيمان.

بعد فحص سريع، قرر خورخي دي ليون أنَّ كُناش الملاحظات قد تم تأليفه بلغة أجنبية عن المسيحية وأمر رجاله بإحضار صاحب مطبعة يُدعى رايموندو سيمبري، الذي كانت لديه ورشة عمل متواضعة بجوار بوابة القدّيسة آنا والذي كان قد تعلَّم عدة لغات؛ أكثر مما يُنصح به المسيحي الصالح بعد أن قام في فترة شبابه بعدة أسفار. وتحت تهديد بالتعذيب، أقسم المطبعي أن لا يفشي السِّر عند معرفة ما بالكُناش. حينها فقط سُمِح له بتصفُّح الكُناش بإحدى القاعات الموجودة في أعلى مكتبة رئيس الشمامسة التي تقع بجانب الكاتِدرائِيَّة والمحروسة بعدد كبير من الحُرّاس. راقب كبير المحقِّقين خورخي دي ليون العملية بكل اهتمام ونهم.

– أعتقد، قداستكم، أن النصَّ مكتوب بالفارِسية. أجاب المطبعي مُرَوَّعا.

 – لستُ بعد قدّيِسا، همس المحقِّق – ولكن كل بوقته، أكمِل…

استمرَّ الأمر على هذا الحال، طوال الليل، وكرَّس المطبعي رايموندو سيمبري كل ذلك الوقت في قراءة وترجمة تلك المُذكِّرة السِّريّة لإدموند دي لونا، المغامر وجالب لعنة الوحش إلى مدينة برشلونة.  

3

قبل ثلاثين سنة، كان إدموند دي لونا قد رحل من برشلونة صوب الشَّرق في رحلة بحث عن المغامرات وخبرات جديدة. رحلته البحرية هذه قادته إلى جُزُر ممنوعة لا توجد في أي من خرائِط مِلاحة العالم، شارك أفرشة أميرات ومخلوقات فظيعة، تعرَّف على أسرار حضارات أقبرها الزَّمن وتعلَّمَ فنون بناء المتاهات. موهبة جعلت منه شخصا مشهوراً وبفضلها حصل على عمل وثروة في خدمة السلاطين والأباطرة. مع مرور الوقت كل تلك المُتع والثروة لم تعد تعني له شيئا. كان قد أروى ظمأه من الشره والطموح بما يفوق أحلام أي إنسان، وفي نضج عمره، أدرك أن أيامه تسيرُ نحو الغروب، فقرَّر أن لا يقدَّم خدماته إلا إذا حصل على أكبر مقابِل؛ المعرفة الممنوعة.

لسنوات، رفض الدعوات لبناء أكثر المتاهات تعقيدًا والتباسا لأنهم لم  يُقدِّموا له المقابل الذي يودُّ أن يحصل عليه. كان يعتقد أنه لا يوجد كنز في العالم إلا وحصل عليه، إلى أن وصل إلى مسامعه أن إمبراطور مدينة القسطنطينية يطلب خدماته، في مقابل أن يمنحه سرًّا أَلفِيًّا لم يبلغه أي إنسان من قبل منذ عدة قرون. وبعد كل هذ الملل الذي كان يشعر به، قرَّر تجريب الفرصة الأخيرة لإشعال القبس في روحه، زار إدموند دي لونا الإمبراطور قسطنطين في قصره. قسطنطين كان على يقين من أن تطويق السلاطين العثمانيين، عاجلاً أم آجلاً، لإمبراطوريته سيمحو من على وجه الأرض المعرفة التي تراكمت في مدينة القسطنطينية لقرون. لهذا السبب، أراد من إدموند أن يُصمِّم أعظم متاهة تم إنشاؤها على الإطلاق، مكتبة سرية، مدينة كُتُبٍ تكون مُخبَّأة تحت سراديب الموتى لكاتدرائية آيا صوفيا حيث يمكن حفظ الكتب الممنوعة وعجائب قرون من الفكر إلى الأبد. في المقابل، لم يُقدِّم له الإمبراطور قسطنطين أي كنز. ببساطة عرض عليه قارورة صغيرة من الزجاج المنقوش تحتوي على سائل قرمزي يتوهج في الظلام، ابتسم قسطنطين بطريقة غريبة وهو يسلِّمه القنينة. ثم أضاف قائلا:

– لقد انتظرتُ زمنا طويلا، لألاقي الشَّخص المناسب لتسليمه هذه القارورة؛ لأنها إذا سقطت في اليد الخطأ؛ ستكون طريقا إلى أكبر الشُّرور.

فحص إدموند دي لونا الزجاجة بتوجس.

همس الإمبراطور في أذنه:

– إنها تحتوي على قطرة دم لآخر تنّين. إنها سِرُّ الخلود.

4

اشتغل إدموند دي لونا لعدة أشهر على إنجاز خطط متاهة كبيرة للكُتب. كان يصمِّم المشروع ثم يعيده دون أن يشعر بالرضا. فهِم حينها أنه لم يعُد يهتم بالمُقابِل، لأن خلوده سيتحقَّقُ نتيجة إنشاء تلك المكتبة الهائلة وليس نتيجة أسطورة سحرية مفترضة. ذكَّرَه الإمبراطور، الذي كان صبورًا ولكن قلقًا، بأن الحصار الأخير للعثمانيين كان قريبًا وأنه لا يوجد وقت يُمكن ضياعه. أخيرًا، عندما وجد إدموند دي لونا الحل للألغاز الكبيرة للمتاهة، كان الأوان قد فات. فقد طوَّقت قوّات محمد الثاني الفاتح القسطنطينية. كانت نهاية المدينة والإمبراطورية وشيكة. تلقّى الإمبراطور الخُطط من إدموند مُنبهرًا، لكنَّه أدرك أنه لا يمكنه أبدًا بناء المتاهة تحت المدينة التي تحمل اسمه. فطلب من إدموند محاولة تفادي الحصار رفقة العديد من الفنانين والمفكرين الآخرين وأن يغادروا إلى إيطاليا.

– أعلَمُ يا صديقي، أنَّك ستجِدُ الموقِع المُناسِب لإقامة المتاهة.

وكمكافأة له، قدَّمَ له القارورة التي تحتوي على قطرة دم آخر تِنّين، لكن بدَت على مُحَيّاه علامات قلق واضحة.

– وأنا أقدَّمُ لك هذه الهدية، أتمنّى أن لا يغريك جشع العقل يا صديقي. أريدك أيضًا أن تقبل هذه التميمة المتواضعة، والتي ربما تستدعي يومًا ما حكمةَ روحك إذا كان ثمن الطموح مرتفعًا جدًا…

فصَل الإمبراطور قلادة كانت مُعلَّقة حول رقبته وسلَّمها له. لم تكن القلادة تحتوي على ذهب أو مجوهرات، بل كانت مُجرد حجر صغير في حجم حبة رمل.

– أخبرني الرجل الذي وهبَها لي أنها دمعة المسيح – قطَّب إدمون بين حاجبيه – أعلم أنك لستَ رجل إيمان يا إدموند، لكن الإيمان يحضرُ عندما لا يُطلب، وسيأتي اليوم الذي يتوق فيه قلبك، وليس عقلك، إلى تطهير الروح.

لم يرغب إدموند في إزعاج الإمبراطور ووضع القِلادة المتواضعة حول رقبته. لم يحمل معه كأمتعة غير خُطط المتاهة والقارورة القرمزية، انطلق في نفس الليلة. سقطت القسطنطينية والإمبراطورية بعد فترة وجيزة من حصار دموي عندما كان إدموند يُبحِرُ في البحر الأبيض المتوسط ​​بحثًا عن المدينة التي تركها في شبابه.

كان يُبحر مع بعض القراصنة الذين عرضوا عليه الولوج إلى سفينتهم، ظنًّا مِنهم أنَّه تاجر ثري وأملا في الاستيلاء على حقيبته حينما يصلون عرض البحر. عندما اكتشفوا أنه لا يحمل أي ثروة، أرادوا إلقاءه في البحر، لكنَّه أقنعهم بالسماح له بالاستمرار على متن السفينة مقابل إخبارهم ببعض مغامراته على طريقة شهرزاد. كانت الحيلة هي ترك العسل على شفاههم دائمًا، وهذا الأمر تعلَّمَهُ من الرّاوي الحكيم في دمشق. «سوف يكرهونك لذلك، لكنهم سيطلبونك أكثر».

في أوقات الفراغ، شرع في كتابة تجاربه على كُنّاش ملاحظات. ولإبعادها عن أعين القراصنة المتطفلين، قام بتأليفها باللغة الفارسية، وهي لغة مُدهشة تَعلَّمها خلال سنواته في بابل القديمة. في منتصف الطريق، صادفوا سفينة تائهة بدون رُكّاب أو طاقم. كانت تحمل جَرّات كبيرة من النبيذ نقلوها على متن سفينتهم، وشرع القراصنة يشربون منها كل ليلة أثناء الاستماع إلى القصص التي يرويها إدموند، الذي لم يُسمح له طبعا بتذوق أي قطرة منها. بعد أيام قليلة بدأ أفراد الطاقم يمرضون وسرعان ما بدأوا يموتون واحدا تلو الآخر ضحايا السُّم الذي تناولوه في النبيذ المسروق.

إدموند، كان الوحيد النّاجي من هذا المصير، كان يضعَهُم في التوابيت التي حملها القراصنة في عنبرهم، ثمرة عمليات نهب. عندما شعر بأنّه هو الوحيد الذي بقي على قيد الحياة وخشي أن يموت ضائعًا في أعالي البحار في أفظع عزلة، تجرَّأ على فتح القارورة. لقد استغرق الأمر لحظة ليلمح الهاوية التي أرادت الاستيلاء عليه. شعر بالبخار يتصاعد من القارورة على جلده، ورأى في ثانية واحدة كيف بدأت يديه تتغطّى بقشور وأظافره تتحول إلى مخالب أكثر حدة وفتكًا. ثم أمسك حبة الرمل المتواضعة التي كانت تتدلى من رقبته وتضرع إلى المسيح الذي لم يكن يؤمن بخلاصه من قبل. اختفت هاوية الروح السوداء وتنفَّس إدموند مرة أخرى بينما عادت يديه إلى حالة يدي البشر. وأغلق القارورة مرة أخرى ولعن نفسَه على سذاجته. عرف حينها أن الإمبراطور لم يكذب عليه، لكن هذا الأمر لم يكن أجرًا ولا نعمة. كان مفتاحا للجحيم.

عندما انتهى رايموندو سيمبري من ترجمة كُنّاش الملاحظات، كان أول ضوء من الفجر يطل عبر السُّحب. بعد ذلك بوقت قصير، غادر المُحقِّق الغرفة دون أن ينبس ببنت شفة ودخل إثنان من الحُرّاس للبحث عن سيمبري ليقوداه إلى زنزانة كان على يقين من أنه لن يغادرها حيًا. بينما كان رايموندو سيمبري كان يقضي في زنزانته أسفل الأرض، توافد رجال كبير المُحَقِّقين إلى الحطام حيث وجدوا القارورة القرمزية مُخبَّأة داخل صندوق معدني. كان خورخي دي ليون ينتظرهم في الكاتدرائية. لم يتمكَّنوا من العثور على قلادة الدمعة المفترضة للمسيح التي جاءت في نص إدموند، لكن المُحقِّق لم يتملَّكه أي قلق من الأمر، لأنه شعر أن روحه لا تحتاج إلى أي تطهير. بعينين جاحظتين من الجشع، أخذ المحقق القارورة القرمزية، ورفعها إلى المذبح ليباركها، وشكر الله والجحيم على تلك الهدية، ابتلع محتوى الزُّجاجة في جرعة واحدة. مرت بضع ثوان دون أن يحدث أي شيء. ثم بدأ المُحقِّق  يضحك. نظر الجنود إلى بعضهم البعض في حيرة  متسائلين عما إذا كان خورخي دي ليون قد فقد عقله. بالنسبة لمعظمهم، كانت هذه آخر مرة يتساءلون فيها في حياتهم. راقبوا المُحقِّق وهو يسقط على ركبتيه وعاصفة من الرياح الجليدية تجتاح الكاتدرائية، تسحب المقاعد الخشبية، وتُحطَّم التماثيل والشموع المضاءة.

ثم سمعوا كيف تشقَّق جلده وأطرافه، وكيف غرق صوت خورخي دي ليون بين أنين الحشرجة في هدير الوحش الذي خرج من لحمه، وأخد ينمو بسرعة في كتلة دموية للأظافر والمخالب والأجنحة. وبدأ يمتدُّ ذيل ثعبان كبير تناثرت عليه حواف حادة تشبه الفأس، وعندما استدار الوحش وأظهر لهم وجهه ذا الأنياب والعينين الناريتين، بالكاد امتلكوا الشجاعة للهرب، اشتعلت فيهم النيران قبل أن يتحرَّكوا، وانتزعت اللحم من عظامهم مثل عاصفة تمزق أوراق الشجر. ثم نشر الوحش جناحيه وقام المحقق؛ القديس جورج والتنين في نفس الوقت بالتَّحليق عبر النافذة الوردية الكبيرة للكاتدرائية وسط عاصفة من الزجاج والنار ليُحلِّق فوق أسطح برشلونة.

5

زرع الوحش الرعب لمدة سبعة أيام وسبع ليال، وهدَّمَ المعابد والقصور، وأضرم النار في مئات المباني، ودمَّر بمخالبه الوجوه المرتعشة التي وجدها تتوسل طالبة الرحمة بعد أن هدَّ الأسطح فوق رؤوسهم. أخد التنين القرمزي ينمو يومًا بعد يوم وابتلع كل شيء كان يجده في طريقه. كانت الجثث المُمَزَّقة تمطر من السماء وتدفَّقت نيران أنفاسه في الشوارع مثل سيل من الدماء.

بحلول اليوم السابع، وعندما اعتقد كل شخص في المدينة أن الوحش سيهلكهم تمامًا ويقضي على جميع السُّكان، انبرى شخص وحيد لمقابلته. إدموند دي لونا، بالكاد تعافى وخرج وهو يعرج، صعد الدرجات التي تُؤدّي إلى سقف الكاتدرائية. هناك انتظر التنين أن يكتشفه ويلاحقه. من بين السحب السوداء من الدخان والجمر، ظهر الوحش في رحلة طيران منخفضة فوق أسطح المنازل في برشلونة. لقد نما حجمه لدرجة أنه كان أكبر من المعبد الذي انطلق منه.

استطاع إدموند دي لونا رؤية انعكاس صورته على تلك العيون الضخمة مثل برك من الدم. فتح الوحش فكيه لابتلاعه، وهو يطير في اتجاهه مثل قذيفة المدفع فوق المدينة، ويمزق في أعقابه أسطح المنازل والأبراج. استخرج إدموند دي لونا حبة رمل القلادة التي كانت تتدلى من رقبته وضغطها في قبضته. لقد تذكَّر كلمات قسطنطين وأدرك أنه وجد الإيمان أخيرًا وأن موته كان ثمنًا زهيدًا جدًا لتطهير الروح السوداء للوحش، والتي لم تكن سوى روح جميع البشر. وهكذا رفع القبضة التي بها دمعة المسيح، وأغمض عينيه وقدَّم نفسه. ابتلعه التنين بسرعة الريح وحلّق عالياً متسلقاً الغيوم.

أولئك الذين يتذكرون ذلك اليوم يقولون إن السماء انقسمت إلى قسمين وأن توهُّجا عظيما أضاء السّماء. كان الوحش مُحاطًا بالنيران التي انزلقت بين أنيابه وأدَّت ضربات أجنحته إلى ظهور وردة كبيرة من النار غطَّت المدينة بالكامل. ثم ساد الصمت، وعندما فتحوا أعينهم مرة أخرى، غطّى السماء ظلام حالك واندفعت زخات من رقائق الرماد اللامع من الأعلى، وانتشرت على الشوارع، وعلى الآثار المحترقة ومدينة المقابر والمعابد والقصور عباءة بيضاء من الرّماد تنتثِر بمجرد اللمس؛ كانت تفوح منها رائحة النار واللَّعنة.

6

في تلك الليلة، تمكَّنَ رايموندو سيمبري من الفرار من زنزانته والعودة إلى المنزل ليجد أن عائلته ومحله لطباعة الكتب قد نجوا من الكارثة. عند الفجر، اقترب المطبعي من الحائط البحري، كان حطام السفينة التي أعادت إدموند دي لونا إلى برشلونة يتمايل. بدأ البحر في تفكيك الهيكل وتمكن من اختراقها كما لو كانت منزلًا تهدَّم منه جدار. استكشف المطبعي أحشاء السفينة في ضوء الفجر الطيفي، ووجد أخيرًا ما كان يبحث عنه. لقد التهم الملح الصخري جزءًا من الخط، لكن خُطط المتاهة الكبيرة للكتب ما زالت سليمة كما خطَّها إدموند دي لونا. جلس على الرمل وبسطها. لم يستطع عقله فهم التعقيدات والأحجية للخريطة، لكنه قال لنفسه إن عقولا أكثر استنارة ستأتي وستكون قادرة بفك أسرارها، وحتى ذلك الحين، وحتى يجد الآخرون الأكثر حكمة طريقة لإنقاذ المتاهة، احتفظ بالخُطط في صندوق العائلة، فلم يكن لديه أدنى شك أنه في يوم من الأيام، سيجد صانِع متاهة يستحق مثل هذا التحدي.

*من المجموعة القصصية  “مدينة البُخار” 2020.

**كارلوس رويث زافون (25 سبتمبر 1964 – 19 يونيو 2020) روائي إسباني اشتهر بكتابته للسلسلة الروائية “مقبرة الكتب المنسية”، والتي تتألف من أربع روايات تُشكّل تيمة أدبية أساسية، ترتبط ببعضها عبر الشخصيات والمواضيع المتعددة، إلا أن كل رواية منها مستقلة عن الأخرى ومنفردة بذاتها. مجموعته القصصية ˮمدينة البُخار“ صدرت بعد وفاته

بقلم: كارلوس رويز زافون

ترجمة: عبد اللطيف شهيد

الوسوم ,

Related posts

Top