لم يسبق لي أن التقيت بالرجل، كلما هنالك سحابة تطوف في ذهني باستمرار عنه. الناس يذكرونه كلما تحدثوا عن الشعر الأمازيغي. خجلت من لقاء قامة شعرية كبيرة لوحدي، فاستعنت بصديقي القاص الحسن زهور، وذهبنا للقاء الشعر.
الشاعر في حلبة الحياة
التقينا به في فوضى «سوق الأحد» المعروف بمدينة أكادير. كانت تخيلاتي صحيحة؛ هذا الشاعر الفوضوي المتمرد، كعادة الشعراء الكبار، لا يمكنه أن يعيش سوى في مكان يتدفق منه الناس كالنمل لعله يتعلم شقاءهم في الحياة، أو في مكان يطبعه الجهل التام بالناس، فلا يلقون بالا إلى ملامحهم المتغيرة؛ هو هنا سيلتقط العلامات الصغيرة والدقيقة التي تفضح المعنى وتشق الطريق إلى الكلمة الشعرية.
فاجأني قائلا: «هل قرأت دواويني؟». لو كان صديقا لي لعرف أني لا أحب الشعر أبدا، لأسباب أنا نفسي لا أعرفها. ولو كان صديقي لعرف أنني نادرا ما قرأت القصة القصيرة، ولو كان يعرفني لتأكد له في آخر المطاف أني أعيش الرواية كتابة وقراءة. قلت وقد سقط في يدي: «لهذا أتيت إليك.. لآخذ دواوينك، لأقرأك، فقد بحثت عنها في المكتبات، لكنها نفدت جميعا».
الشاعر وشاعرية الزلزال
حين دلفنا منزله، بعد أن أصر علينا كثيرا، اعتقدت أول الأمر أننا دخلنا إلى متحف أمازيغي؛ طين مزركش في واجهة من الواجهات، حروف تيفيناغ في كل مكان، أواني نحاسية انهدم عليها الزلزال والتقطها الشاعر حفاظا على الذاكرة. أفرشة تقليدية دالة على ذوق رفيع جدا.
أخبرته أن هذه الزيارة ستكون حوارا على مقاسه، على مقاس تمرده، حوارا متمردا لا يحترم شيئا من أدبيات الحوار، يكتفي بالتقاط النقط المضيئة ويكتفي.
هو الذي يرفض أن ينسب إلى أبيه فحسب، يصر أن يضع لقب أمه على دواوينه؛ فقد ظلم التاريخ وجود المرأة وكينونتها حينما خلقت من ضلع الرجل، وحينما كانت مجرد ظل له، تابعة وخاضعة. ها هو يرفعها إلى المكان الذي يليق بها، اسما على دواوينه الأربعة.
حينما سألته أين يرى نفسه في المستقبل، قال: «المستقبل رهين بإرادة الله، هو المتحكم في هذه الأمور». لابد أنه أدرك أن هذا الجواب لا يليق بشاعر، فاستدرك: «حقيقة، مستقبل أي واحد منا رهين بما يفعل، بجده وانضباطه. باهتمامه بعمله وإتقانه كما يجب».
أربعة دواوين وحكاية طريفة
وضع أمامي ثلاثة دواوين. لم يحصل على نسخ من ديوانه الأول «تينيتين» الذي نشره المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. حاول أن يحصل عليها وواجهوه بالتسويف والضوابط القانونية. «هذا ديوايني يا سيدتي.. أريد أن اشتريه منكم». وجد الشاعر أن ما كلماته الشعريةأصبحت في أيد لا تعرف معنى للكاتب والشاعر. أحسست بالإهانة نيابة عنه. ظننت دائما أن الكاتب شخص مقدس لا يرفض له طلب، فإذا به يتحول إلى أسفل سافلين في مؤسسة تدعي دعم الأمازيغية وخدمتها. هل تريدون أن تعرفوا ما فعل بعد ذلك؟ اقرأوا عنوان سيرة الكاتب الفرنسي جون جيني وستعرفون، لأن الشاعر يرفض أن أكتب ذلك.
محمد وكرار لم يكن مثل الكتاب والشعراء المتعالمين الذين ينفخون في أنفسهم مثل بالون. كان طيبا معنا ومضيافا إلى أبعد الحدود. ذقنا خبزه البلدي الذي طبخته زوجته الطيبة لالا زينة. وذقنا تواضعه الجم المطبوع بوشام الشعر.
ذاكرة النص وانتقال القصيدة عبر نغمات الوتر
حينما تقرأ نصوصه تنذهل بهذا التأليف العجيب للعبارة، فهي دائما تطرق أماكن لم تطرق أبدا، وتختفي فيها جمالية مبدعة وفاتنة. سألته عن الشعراء الذين تأثر بهم، فقال: «بدءا، كان سيدي حمو، ثم الحاج بلعيد وصديقي مبارك بولكيد الذي يرفض نشر نصوصه الشعرية، وقبل ذلك كله، الشاعر علي صدقي أزايكو الذي طالما شجعني على المضي في كتابة الشعر حينما أصبحنا أصدقاء وقبل أن توافيه المنية».
بعض نصوصه غناها الموسيقار العملاق عموري مبارك، حينما ذكره ظهر لي أنه يكن له احتراما كبيرا. يبدو أنه كان صديقه الأعز، فعلامات التحسر ظاهرة على محياه حينما ذكره أكثر من مرة.
مضى الوقت سريعا في ضيافة الشاعر. خرجنا من منزله الأمازيغي وأحسست أنني نلت جائزة لقائه، جائزة الجلوس معه وإخبار الناس عنه. ودعناه أمام منزله، أرانا الوجهة الأقل اكتظاظا بالناس، لوح لنا، ومضينا محفوفيْن بأبهة الشعر.
بقلم: مبارك اباعزي