أبوكاليبس ناو

معادلة تفرض نفسها: عندما يكون الفن، فنا مستقبليا، ولكن معنيا بالأنقاض، فذلك يعني أننا أمام فن ما بعد الحداثة، الذي، وباختصار شديد، هو تجسيد لذوبان الحدود التي تفصل ما بين الأفكار الفلسفية والحياة اليومية.

كل ما هو دون ذلك هو ضرب من ضروب الهرطقة الفنية والتعالي على ترجمة الأفكار بوسائل فنية باهرة تؤدي واجبها، وهو الكشف عن المغزى المقصود.

احتضنت بيروت مؤخرا حدثين مختلفين بشكل كبير، ولكنهما متصلان في العمق، المعرض الأول، هو للفنانة اللبنانية كاتية طرابلسي وعنوانه “هويات دائمة” ويهجس بالعلاقة ما بين النزاع والثقافة والهوية، والثاني، هو للفنان والموسيقار اللبناني زاد ملتقى ويحمل عنوان “شمش”. في حين قدّمت طرابلسي 47 منحوتة مختلفة، لكنّها جميعها مستوحاة من القذائف التي دمّرت بيروت خلال الحرب الأهليّة.

بنى ملتقى مشروعه عبر تشييد عمارات افتراضية/ مرئية وتركيبات صوتية/ موسيقية ليتحدّث عن أرض النزاعات العربية. قال الفنان إن “شمش استمد جذوره من قانون حامورابي المحفور على نصب من حجر البازلت الأسود قبل نحو ألفي عام، وعلى رأس هذا الطوطم يتربع شمش، إله الشمس، تماما كما يوزّع الضوء الظلال، كذلك يفضح شمش الشر في وضح النهار ويضع حدا للظلم”.

ويمكن إطلاق عنوان واحد قادر على لمّ شمل معنى الحدثين الفنيين، وهو “لسنا إلاّ أنقاض ذاتنا”، أما العنوان الفرعي، فيمكنه أن يكون “الصور التي نبدعها هي في حرب مع الواقع، كلا المعرضين يحثان على السلام، ولكنه على الأرجح لن يصل إلى أي شاطئ.

ما يجمع ما بين الفنانين أنهما كثّفا، أو قلّصا العالم إلى صور خائنة للحقيقة، وأنهما حوّلا البشر إلى صور في محاولة ليست ناجحة كثيرا في جعلهم يبدون وكأنهم يملكون السيطرة على موتهم لمجرد أنهم محدثو هذا الموت.

كما استطاعا أن يكرّسا ظاهرة تفتيت المعاني عبر عرضها متناقضة مع ذاتها وطارحة لهذا السؤال: كيف يمكن للفن الملتزم أن يوجد في زمن لم تعد فيه القيم الإنسانية مُسلمات، بل حالات آيلة للتحوّل إلى نقيضها؟

هذا السؤال أُثير ببراعة فنية واستطاع الفنانان أن يبدوا من خلال ما قدّماه شاهدين على ذاتهما، وهما في قلب آتون الحاضر الذي يصفونه.

قدّم الفنان زاد ملتقى هيكلية بصرية متماسكة لدمار شامل، وكأن في ذلك انتقاما من “هؤلاء” القاتلين الذين هم أيضا القتلى، ربما لأجل ذلك غادر العديد من زائري المعرض وقد تقاسمتهم مشاعر متناقضة، فالموسيقى التي ألفها الفنان لتكون في صلب عمله بدت وكأنها نوتات وتمتمات تقتات بعضها من بعضها الآخر، كما يفعل مصاصو الدماء في الأفلام الخيالية، وبدا الحدث الفني بمجمله مهتما بتظهير موت المعاني والمبادئ الإنسانية أكثر من اهتمامه بتمثيل سياق تاريخي لا تزال المنطقة العربية تشهده منذ آلاف السنين.

كلما تقدّم الزائر في عمق المعرض، كلما شعر بعبوره لتجربة غامرة تريه ما آلت إليه المعاني والقيم الإنسانية إلى هيئة بالية تريد أن تسود، وستتمكن من أن تكون القيم الجديدة/ البديلة.

أراد زاد أن يبعث رسالة سلام عبر “شمش” الذي أجبر العنف على الغناء، ولكن أي رسالة سلام يمكن لها أن تواجه كم العنف الذي يسكن حتى المشاريع الواهية لاتفاقيات السلام؟

أرادت طرابلسي أن تحوّل أدوات التدمير إلى تحف فنية عالمية، ولكن أي تحفة فنية قادرة على إشاحة نظرنا عن الهيئة الطاغية للقذيفة وإن كانت، كما هو الحال في معرض طرابلسي، قذيفة عراقية منقوشة بقانون حامورابي؟

معرض كاتيا طرابلسي قاتل بهدوئه كمقبرة تنتصب فيها شواهد، وقاتل تجهيز زاد ملتقى بضجيجه السمعي كالداخل إلى ساحة معركة لن يخرج منها حيا، وتحيلنا الأفكار المطروحة في المعرضين ولا سيما في معرض زاد ملتقى إلى الفيلم الشهير “أبوكاليبس ناو” الغائص في ظلمات النفس البشرية، تلك الظلمات البكماء التي لا نهاية لها والتي اختصرها لسان الضمير المثقل المتمثل ببطل الفيلم “كيرتس” القاتل البربري، لحظات قبيل أن يخلصه قاتله من عذابه النفسي “الفظاعات.. الفظاعات.. الفظاعات”.

> ميموز العراوي ناقدة لبنانية 

الوسوم ,
Top