وتختار المؤلفة مجموعة من الكتب الأدبية، وهي: «البخلاء» للجاحظ، و»الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي، و»عيون الأخبار» لابن قتيبة، و»كتاب الاعتبار» لأسامة بن منقذ، و»ألف ليلة وليلة»، كونها تحتوي على مشاهد قصصية، وملامح السيرة الذاتية، تبدو شديدة الصلة بالحياة اليومية، ووفية لسياقها الاجتماعي والثقافي، وتحفظ بين صفحاتها قصصاً واقعية، تتسم بالعفوية والصدق، وتحتوي على مشاهد التسامح مع الآخر في غالب الأحيان، كما تحتوي مشاهد التعصب أحياناً أخرى.
الجاحظ والفرس
ويظهر من خلال كتب الجاحظ أن الفرس أكثر الأمم حضوراً في الحياة الاجتماعية، نتيجة تمازج عرقي وديني حصل إثر الفتح الإسلامي، وانعكس على الثقافة، حيث يمكن القول بأن الفرس أسهموا بعد دخولهم الإسلام في الحضارة الإسلامية أكثر من غيرهم. ويقدّم الجاحظ صورة الفرس عبر رؤية جمالية وإنسانية، حيث يضفي بهاء وجاذبية على صورة البخيل، دون أن يميز فيها بين العرب والفرس، ولم يلحق صفة البخل بالآخر كدليل على أن الجاحظ قدم صورة مشوهة للفرس، بل رصد مرحلة حضارية جديدة، بدأت تفرض قيمها الاجتماعية والاقتصادية غير المألوفة، فتجلّت معطياتها الجديدة في سلوك الأشخاص وفي مناظراتهم الفكرية! بغض النظر عن انتمائهم العرقي!.
أما كتب أبي حيان التوحيدي فتكمن أهميتها في كونها توثق مشاهد حوارية، تؤسس لثقافة تحترم الآخر المختلف، فتتيح له فرصة الدفاع عن وجهة نظره! وترد عليه بطريقة عقلانية متوازنة، ليس فيها نبرة الاستعلاء عليه. وبالتالي ليس مستغرباً ابتكاره مصطلح «العصبية الإنسانية»، الذي يجسد روح الحضارة الإسلامية، حين كانت في أوج ازدهارها في القرن الرابع الهجري، فأسس لعصبية يحتاجها الإنسان في أي زمان وأي مكان، ورفض أشكال التعصب الأخرى، التي تدمر الإنسان، والتي ترافقت مع ضعف الحضارة الإسلامية، وسيادة الجهل والتقليد الأعمىّ فبدا الآخر مشكلة أو جحيماً.
ويجسد ابن قتيبة في كتابه «عيون الأخبار» انفتاح عصره على الآخر، من خلال معايشة النظرة الإسلامية الموضوعية، التي تقدم صورة إيجابية للآخر إلى جانب السلبية، وتعلي من شأن الذات منطلقة من روية متعصبة تارة، وتارة أخرى تعلي من شأن الآخر على حساب الذات منطلقة من لحظات ضعف تشوب الذات.
أما «كتاب الاعتبار» لأسامة بن منقذ، فيعتبر أقرب إلى السيرة الذاتية، التي تحولت إلى سيرة جمعية للأمة، إذ اندمجت فيها الأنا بـ»نحن»، حيث تظهر روح الأمة في لحظة نادرة من التاريخ، وقد كبت وضعفت، حين استولى الإفرنج على كثير من المدن الإسلامية، لكن الأنا لم تستسلم للضعف ولمشاعر الكراهية مع الآخر، فاستطاعت أن تقيم معه علاقة إنسانية في فترات السلم. ولعل أحد تجلياتها التبادل اللغوي بين اللغة العربية والإفرنجية، تجسدت حين استعار ابن منقذ، مفردات من لغتهم، كما استعاروا مفردات عربية وبعض العادات الاجتماعية.
ألف ليلة وليلة
والمتأمل لكتاب «ألف ليلة وليلة»، يلاحظ أنه من نتاج الحضارة الإسلامية، بكل ما تعنيه من انفتاح على الحضارات الأخرى، فهو من أكثر كتب التراث احتفاء بالواقع، الذي قدمه عبر لوحات قصصية، تجسد مشاهد حية من الحياة اليومية، ويحتوي على صور تجسد التعامل مع الآخر الديني (المسيحي واليهودي)، والآخر العرقي (الفارسي والهندي واليوناني)، والآخر المختلف في المرتبة الاجتماعية (العبد)، فقدم كتاب ألف ليلة وليلة صوراً متعددة الألوان والأشكال.
ويمكن القول بأن العلوم والفنون والآداب ينبغي أن تخدم قضايا الإنسان، وتعلمه فن المحبة والنضال، وطريق السعادة، ولذة التفكير، وأن يؤمن الأديب والكاتب بالالتزام، من دون أن يعني ذلك التقوقع داخل القبيلة أو الطائفة أو الجماعة المنغلقة.
غير أن المتخيل العربي الإسلامي عن الآخر لا يمكن اختزاله بالعلاقة المعرفية، أو إلى علاقة الانعكاس المعرفية، لأنه مليء بالمعاني التي تتغذى بالطبع من حدود المعرفة المتوفرة عن الآخر، وعن العالم. لكنها تفيض عنها إذ لا يقتصر هذا المتخيل على محاولة تصور واقع الجماعة الأخرى، فقد يتكفل الزمن ويقدم المعرفة في تصحيح انحرافاته ليصبح (مطابقا)، بل إن هذه المعرفة نفسها لا تستقل عن أحكام القيمة ومعاييرها، ولا عن الرموز والدلالات والمعاني الثقافية، التي تختزل المقاصد الروحية الأعمق للجماعات.
وقد لعب الإسلام، كدين دوراً حاسماً في تغذية الذاكرة والمخيلة العربية الإسلامية بصورةً معينة للآخر، وبطريقة معينة للتعامل معه دون إغفال المؤثرات الأخرى الدنيوية والزمنية، والفضول المعرفي فكان القرآن بمثابة النص التدشيني الذي قامت عليه الجماعة الإسلامية، وتألفت في كنفه، وحدّد للمسلم مواقفه من الأخر، المختلف عنه دينياً، وثقافياً، وعين له سلوكه تجاه المختلفين معه.