بينما بدأ بصيص ضوء يلوح في نهاية نفق الجائحة، صار لزاما على الدول العربية المبادرة إلى وضع خطط بعيدة المدى للتعافي. فالمساعدات الآنية المحدودة لم تعد وحدها تكفي، لأن الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية ستستمر لسنوات طويلة، ولن تنفع الأساليب التقليدية في معالجتها. وإذا كانت دول قليلة في المنطقة بدأت وضع خطط تتعدى برامج الطوارئ، فمعظمها لم يتجاوز مرحلة العمل لتأمين اللقاح والعلاج والحد الأدنى لسبل العيش، في وقت خسر عدد كبير من الناس مصدر رزقهم وتراجع النشاط الاقتصادي ومستوى الدخل تراجعا ينذر بأخطار كبيرة.
«التعافي الأخضر والسلس والعادل في الشرق الأوسط» كان موضوع حلقة نقاشية نظمتها كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية، وهي جزء من مبادرة لوضع خيارات محددة لسياسات عامة تكفل إعادة البناء على أسس مستدامة. اللافت أن اعتبارات الاستدامة، بما فيها رعاية البيئة والموارد الطبيعية، جاءت في صلب المبادرة، وهذا يعبر عن اتجاه جديد لا يمكن تجاهله. فرغم التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها جائحة «كورونا»، فرضت البيئة موقعها بندا رئيسيا على جدول الأعمال.
الأسئلة المرتبطة بالبيئة والموارد الطبيعية لعصر ما بعد «كورونا» كثيرة: كيف سيكون استهلاك الطاقة، وأي نوع منها؟ كيف ستتحول صناعة الطيران والسياحة؟ أي نوع من الوظائف سيستقطب العدد الأكبر من طالبي العمل؟ ما هو الأثر على الاستثمارات في إنتاج الغذاء والصحة؟ هل سيحصل تغيير في إدارة الموارد الطبيعية والمناطق المحمية؟
صفة «الأخضر» تفترض بالخطة أن تكون سليمة مناخيا، فتخفف من الانبعاثات الكربونية، مع اعتماد مبادئ الاقتصاد الدائري، التي تؤدي إلى تقليل استهلاك الموارد الطبيعية وتعيد استعمالها وتصنيعها بدلا من رميها. أما صفة السلاسة والمناعة فتتطلب أن تحمي خطط التعافي من الصدمات الاقتصادية والبيئية، عن طريق منح الناس القدرة على التكيف والحفاظ على التوازن. وتجمع العدالة والمساواة بين هذه الاعتبارات كلها، إذ تضمن وصول الفوائد إلى الجميع بلا استثناء.
اتفق المتحاورون على أن أسواق الطاقة ستشهد تبدلا جذريا في السنوات المقبلة، وهذا سينعكس أولا على الدول المصدرة للنفط والغاز. فالانخفاض في الاستهلاك خلال فترة الهبوط الاقتصادي قد يرتفع في سنوات التعافي الأولى لتعويض النقص. لكن التحول نحو الطاقات النظيفة والمتجددة، الذي بدأ في السنوات الأخيرة، سيستمر بوتيرة أسرع، بعدما وضعت دول كثيرة تخفيض الانبعاثات الكربونية شرطا على الشركات للحصول على حصة وازنة من صناديق الدعم. وقد شهدت هذه السنة ارتفاعا غير مسبوق في السيارات الكهربائية التي لا تستخدم الوقود، وأكدت بعض الشركات، مثل فولفو، على حصر إنتاجها بالسيارات الكهربائية في تاريخ لا يتجاوز سنة 2030.
أما صناعة الطيران، المرتبطة بالأعمال والسياحة، فستضطر إلى تعديل استراتيجيتها جذريا، بعدما اعتاد رجال الأعمال على عقد الاجتماعات الافتراضية عن بعد، وتبين أنها بديل صالح ومفيد في معظم الحالات. لن يمكن الاستغناء عن الاجتماعات والمؤتمرات «البشرية» التي تعقد وجها لوجه، لأن الإنترنت لا يتيح فرص التواصل الإنساني نفسها. غير أن المستقبل سيجمع بين الاثنين، مما قد يخفض رحلات الأعمال إلى النصف. في المقابل، من المتوقع أن تزدهر سوق المعارض، لأن الشاري يطمح إلى مشاهدة الأجهزة والآلات عن قرب، ولمسها واختبارها، أكانت حاسبا آليا أم سيارة أم آلة صناعية. ومن المفيد تطوير برامج للجمع بين المعارض والسياحة، لأن المسافر ما بعد «كورونا» سيحرص على جمع نشاطات متعددة في رحلة واحدة.
وقد تتغير عادات السياح، فيختار كثيرون السياحة الداخلية، إما في بلدهم وإما في البلدان المجاورة. وسنشهد عطلات أطول مدة، للتعويض عن عناء إجراءات السفر المشددة التي ستستمر طويلا، والارتفاع المتوقع في أسعار البطاقات، مع جمع أكثر من بلد في عطلة واحدة. وسيزداد الإقبال على السياحة التراثية والطبيعية، فيأتي الناس إلى البلدان العربية ليس لمناخها الدافئ وشواطئها فقط، بل لاكتشاف ثرواتها الطبيعية وتراثها. هذا كله يستدعي تطوير وجهات سياحية جديدة وتسويقها وفق معايير مختلفة. ولئن نظر بعضهم في الماضي إلى الصحراء كما لو كانت رقعة ميتة، فلسوف يكتشفون أن كثيراً من السياح الغربيين يتوقون إلى التمتع بسكون الصحراء وطبيعتها الفريدة. والمطلوب، فوق هذا كله، تطوير السياحة البيئية لاستكشاف الطبيعة وإدارة المواقع والمنشآت السياحية التقليدية بما يراعي الشروط البيئية، ليس لأن هذا عمل نبيل وأخلاقي فقط، بل لأنه عامل مهم للتسويق في هذا العصر.
يترتب على البلدان العربية في عصر ما بعد «كورونا» دعم البحث العلمي، خاصة في مجالات الصحة والطاقة والمياه وإنتاج الغذاء ورعاية الطبيعة. فقد علمتنا التجربة المريرة أهمية أن نكون شركاء في العلم لنستطيع الاستفادة الكاملة من نتائجه. ومع استغلال النفط خلال النافذة المفتوحة لسنوات لا تقل عن الثلاثين، واستخدام الدخل في تطوير المجتمعات المحلية وتنويع الاقتصاد، على الدول المنتجة أن تدعم بقوة الأبحاث لتطوير أساليب رخيصة وفعالة لالتقاط الكربون وتخزينه وإعادة استعماله على نحو آمن، لأن هذا يأتي بالخير على الدول النفطية والبشرية جمعاء.
وعلى دول المنطقة أن تكون مستعدة لتدريب جيل جديد قادر على تغطية حاجات سوق العمل في اختصاصات المستقبل، وفي طليعتها برمجة الكومبيوتر والذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة وإنتاج الغذاء وإدارة الموارد المائية.
قبل المباشرة ببرامج جديدة، علينا إجراء جردة بكل البرامج التي وضعت خلال السنوات العشرين الأخيرة. فقد تجد معظم الدول العربية أن كثيرا من الخطط الصحيحة كانت هناك منذ زمن بعيد، والمطلوب فقط إعادة إحيائها وربطها باستراتيجية بعيدة المدى، مع مراقبة دورية للتنفيذ تسمح بتحديد مواقع الإنجاز والقصور بغية التصحيح في الوقت المناسب. ولا بد للتغيير الصحيح من أن يترافق مع إعادة النظر في أنظمة دعم أسعار بعض السلع لترشيد الاستهلاك، والتوزيع العادل للضرائب والرسوم، بحيث تشكل حوافز وروادع. ومن الضروري وضع أهداف واقعية للنمو تعتمد بشكل أساسي على القوى البشرية المحلية المدربة، مع التقليل من نسبة العمالة الأجنبية.
وكما أن فيروس «كورونا» لم يستأذن مأموري الحدود لينتشر من بلد إلى آخر، يتطلب تحقيق أهداف التنمية المستدامة من الدول العربية تطوير سياسات فاعلة للتعاون الإقليمي الكامل في جميع المجالات، بدءا من المتحدات المجتمعية المتجاورة، مثل مجلس التعاون الخليجي، بانتظار أن تتبعه مجالس مشابهة في مناطق أخرى.
نجيب صعب
الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»