تدفع الحرب الروسية – الأوكرانية التي تدور رحاها بأوروبا الشرقية، والتي أججت التوتر بين الغرب وموسكو وتنذر باتساع رقعتها نحو، ما وصفه مراقبون، “حرب عالمية ثالثة” لها تكاليف باهظة ليس على المنشئات والبنية التحتية فقط وإنما على مستوى الأرواح وعلى ملايين الناس الذين تنقلب حياتهم رأسا على عقب، إلى تقليب صفحات الماضي، لاستحضار ما دون من تفاصيل حروب طاحنة جرت خلال القرن الماضي، وبداية القرن الحالي.
في هويات متداخلة، كما في روسيا وأوكرانيا، لم يبق أحد خارج الحرب. انتهت الحروب وحفرت جراحا لا تندمل وعنفا لا ينسى. وفي هذه السلسلة، تعيد “بيان اليوم” النبش في حروب القرن الـ 20 والقرن الـ 21 الحالي، حيث نقدم، في كل حلقة، أبرز هذه المعارك وخسائرها وآثارها، وما آلت إليه مصائر الملايين إن لم نقل الملايير من الناس عبر العالم..
غزو العراق.. الحرب التي عصفت ببلاد الرافدين منذ 2003
عاشت العراق أياما صعبة طيبة الثمانينات والتسعينات ين بداية الألفية الجديدة، حيث خاضت بغداد ثلاث حروب طاحنة في العقود الثلاثة تواليا.
كانت الحرب الأولى التي جمعتها بإيران بداية الثمانينات وتعد من أطول الحروب في القرن العشرين، ثم خاضت مباشرة بعد انتهاء الأولى حربا ثانية مع الكويت وما تلاها من تدخل دولي أرضخها مع نهاية التسعينات.
وما لبثت العراق إلا أن دخلت في عام 2003 معركة جديدة، هذه المرة مع القوات الأمريكية التي نفذت غزوا مدمرا فتك ببلاد الرافدين وأدخلها في دوامة من الفقر والتراجع الاقتصادي والاجتماعي.
أسباب الغزو
عقب هجمات 11 شتنبر 2001، رفعت واشنطن حدة هجومها على القاعدة وغزت أفغانستان، وبدأت مع توالي الشهور تواجه الاتهامات لصدام حسين بالتعاون مع القاعدة وتطوير أسلحة إستراتيجية، أو ما يطلق عليه بأسلحة الدمار الشامل.
قناعة أمريكا بمهاجمة العراق، كان قد تشكل ساعة واحدة قبل وقوع أحداث 11 شتنبر 2001، كما كشفت ذلك شبكة تلفزيون “سي بي أس” (CBS) الإخبارية الأميركية التي قالت في 4 شتنبر 2002 إنها حصلت على وثائق تظهر أن قرار غزو العراق اتخذه وزير الدفاع الأميركي آنذاك دونالد رمسفيلد بعد ساعة من وقوع هجمات 11 شتنبر 2001 على واشنطن ونيويورك.
وأضافت الشبكة أن الوثائق تفيد بأن رمسفيلد خاطب معاونيه العسكريين قائلا: “فكروا فيما إذا كان مناسبا ضرب صدام حسين في الوقت نفسه وليس فقط أسامة بن لادن”، رغم أن كل التقارير الأميركية ألقت باللوم في تلك الهجمات على تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن.
وجاءت تسريبات الشبكة في وقت نقلت فيه الإدارة الأميركية بقيادة جورج بوش الابن تركيزها من أفغانستان إلى العراق، وكثفت جهودها لإقناع قادة الكونغرس والرأي العام الأميركي والعالمي بخططها لغزوه، وإثر تصريحات لبوش اتهم فيها العراق بأنه “حليف لتنظيم القاعدة”، وقال إنه “ليس خيارا بالنسبة لنا ألا نفعل شيئا إزاء التهديد الخطير الذي يشكله البرنامج العراقي لإنتاج أسلحة إستراتيجية”.
تلا هذا التوجه الأمريكي، توجه بريطاني مشابه، حيث نشرت الحكومة البريطانية برئاسة توني بلير في خريف 2002 تقريرا يحذر من “المخاطر التي يشكلها امتلاك العراق أسلحة دمار شامل”، وذلك في محاولة لكسب تأييد الشعب البريطاني والرأي العام العالمي لصالح القيام بغزو العراق.
ويرى مراقبون أن كل من أمريكا وبريطانيا تذرعوا بما سموه أسلحة الدمار الشامل، في الوقت الذي كان سبب الغزو يرتبط بما هو سياسي واقتصادي، وفي مقدمة الأسباب تحمس الحكومتين الأميركية والبريطانية لوضع اليد على ثروة العراق النفطية الهائلة، إذ أكدت وثائق سرية حكومية بريطانية وجود علاقة قوية بين شركات ومؤسسات نفطية وعملية غزو العراق، وقالت إن خططا لاستغلال الاحتياطي النفطي العراقي تمت مناقشتها بين مسؤولين حكوميين وبين كبريات الشركات النفطية العالمية، وخاصة البريطانية منها.
في مطلع يناير 2003، أعلن بوش الابن في خطاب ألقاه بقاعدة “فورت هود” بولاية تكساس وهي أهم القواعد العسكرية الأميركية أن بلاده جاهزة ومستعدة للتحرك عسكريا إذا رفض العراق نزع أسلحة الدمار الشامل التي يملكها، وأضاف أن بلاده لا تريد غزو العراق وإنما “تحرير الشعب العراقي”، وأعرب عن ثقته في تحقيق نصر حاسم لأن أميركا تمتلك أفضل جيش في العالم”.
واتهم بوش صدام حسين بأنه يمثل تهديدا حقيقيا لأميركا وحلفائها لأنه استخدم أسلحة الدمار الشامل سابقا كما استخدامها ضد شعبه، واتهمه بـتحدي مطالب الأمم المتحدة بعدم تقديم إقرار جدير بالثقة عن برامجه للأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية لمفتشي المنظمة الدولية، الذين استأنفوا عملهم التفتيشي في العراق أواخر نونبر 2002.
بداية الغزو
في فجر 20 مارس من عام 2003 توالت الانفجارات في بغداد، واستهدفت الغارات الجوية مقرات القيادات العراقية، وبدأ الاجتياح الأمريكي البريطاني لبلاد الرافدين، عبر تغطية جوية ضربت مناطق مختلفة من العراق، فيما تمكن مزامنة مع ذلك القوات البرية الأميركية البريطانية العبور إلى داخل البلاد انطلاقا من الكويت، عبر سياج ميناء “أم قصر” ومحاصرة الميناء من غربه وشماله، وقطع طريقه المؤدية إلى البصرة وشبه جزيرة الفاو.
وقتها أعلن الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الابن بداية حرب ما سماها “الحرية من أجل العراق” وعبرت القوات البرية الأميركية البريطانية إلى داخل العراق، واستقرت قوة بريطانية قبالة بلدة أبو الخصيب وقطعت جميع الطرق المؤدية إليها.
استمر القتال باحتدام، وانضمت مجموعة من الدول للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وعرفت الأشهر الأولى من الغزو توجيه غارات مكثفة جدا على بغداد ومدن أخرى، وأعلنت خلالها القوات البريطانية استيلاءها على مصفاة للنفط في شبه جزيرة الفاو، كما هاجمت قوات الغزو البريطانية الجيش العراقي في مدينتي الزبير والبصرة وحاولت احتلال مطار البصرة الدولي، فيما توجه جزء من الجيش الأميركي نحو مدينة الناصرية، التي شهدت مقاومة عنيفة، كما هو الشأن للبصرة.
دمار ونتائج كارثية
استمرت عمليات القصف المكثفة والمواجهات المباشرة 19 يوما، قبل أن تتمكن القوات الأمريكية من فرض سيطرتها على العاصمة بغداد واحتلال بغداد بعد سقوط الجيش العراقي الذي كان يواجه بدون تغطية جوية.
استمرت العمليات العسكرية طيلة الفترة الواقعة بين لحظة سقوط العاصمة بغداد وحتى نهاية دجنبر 2007، حيث بلغ عدد العمليات العسكرية الأميركية بالعراق ما يناهز 569 عملية عسكرية، تتفاوت المحافظات والمناطق العراقية في كثافتها فيها، حيث تأتي بغداد أولا ثم محافظة الأنبار ثم بقية المحافظات، ونُفذ 35 بالمئة منها في عام 2007 وحده، حيث عرف هذا العام وصول عدد الجنود الأميركيين في العراق ذروته بانتشار 170 ألف جندي لتوفير الأمن ومواجهة عمليات المقاومة العراقية المسلحة، ثم بقي حوالي خمسين ألفا منهم لدى انتهاء العمليات القتالية في غشت 2010.
دام وجود قوات الاحتلال في العراق حوالي تسع سنوات سادت فيها مختلف مظاهر الفوضى والدمار، لكن القوات الأميركية وحلفاءها تلقوا أيضا خسائر فادحة في الأرواح، حيث قتل لأميركا 4500 جندي وأصيب نحو 30 ألفا آخرين بينما قتل 179 جنديا بريطانيا فقط.
وتتفاوت التقديرات للعدد الإجمالي لقتلى الغزو من العراقيين تبعا لجهة صدورها، فقد أفادت دراسة أعدها معهد الاستطلاعات البريطاني في صيف عام 2007 بأن عدد قتلى الغزو من العراقيين بلغ حتى ذلك التاريخ حوالي مليون شخص، من أصل 26 مليونا هم سكان العراق. وكان تقرير للمجلة العلمية البريطانية “ذي لانسيت” صدر في أكتوبر 2006 قدر عددهم بما لا يقل عن 655 ألف قتيل، فيما كانت منظمة الصحة العالمية قد أعلنت أن حصيلة القتلى العراقيين تتراوح بين 104 آلاف و230 ألفا، وهو قريب من تقديرات وثائق ويكيليكس المسربة عام 2010 والتي أشارت إلى مقتل 109 آلاف عراقي منذ بداية الغزو.
انسحاب أمريكا وبريطانيا
في 18 دجنبر 2011، أعلنت الولايات المتحدة أن جيشها أكمل انسحابه من العراق ذلك اليوم، وأن الانسحاب جاء تطبيقا للاتفاقية الأمنية الموقعة مع حكومة بغداد عام 2008، وبعد أن رفضت الأخيرة منح آلاف الجنود الأميركيين حصانة قانونية.
وكانت بريطانيا بدأت سحب قواتها من جنوبي العراق مطلع أبريل 2009 وأكملته بشكل نهائي يوم 22 ماي 2011.
أدى غزو العراق إلى أزمات إنسانية وإلى وضع كارثة ببلاد الرافدين التي لم تنعم منذ ذلك الحين بالأمان والاستقرار بسبب الفوضى وتفشي العنف، وكان الغزو الذي انطلق في 2003 سببا مباشرا في ذلك.
وما يزال العراقيون يؤدون ثمن هذا الغزو نتيجة انتشار الطوائف والخلافات السياسية والدينية، التي تؤدي بين الفينة والأخرى إلى حوادث متفرقة وانفجارات في مختلف المحافظات.
> إعداد: توفيق أمزيان