لا أكاد أدرك همسات الصباح حتى بلغتُ مسرّات وأسى، حتى وجدتني صاقعة أشبه قطرات الندى وهي تخترق أشعة الشمس المتدفقة من ستار نافذتي، كأنّ كل النسمات العابرة اِقتحمت غرفتي وعطرتْ بالحبّ أنفاسي .
إنها مسؤوليتي أن أجعل أيامي عظيمة
لا أحد سيشعر بوقع خطواتي المتهالكة، لا أحد سيهتم إن انطفأت فوانيس روحي، أعرف فقط أن هناك من سيحوّل خرابي إلى حفلة موسيقى من يكوّر تعبي في حلقات فارغة ثم يرقص داخلي بكل حفاوة، في وقت غير مناسب تماما
لأتحوّل إلى شخص أكثر وعياً أكثر نضجاً و أكثر قدرة على التحكم بتصرفاتي، لا مزيد من الركض خلف السراب ، لا مزيد من امتطاء موجات لا تناسبني، لا مزيد من حياة لا تشبه الحياة
صباحي سلام حين بات الهدوء منتهى الرغبات و الطمأنينة غاية المبتغى وقلب دافئ يُلقي عليّ الحبّ بالرضا ..
أملك روح متمردة تجعل من الصيف العجوز يغدو شتاءا منعشاً،
ربما هكذا كان لقائي مع ضوء الفجر صوت استفاق قبل أن ينام
كنت دائما أحلق خارج السرب، لا شيء يختلس شعوري القديم، لا طيور مهاجرة تعود، لا أحاديث غافية تستفيق،
لا تفاصيل تتسرب في صمت، لا خطوات تنشد أطراف العزم، لا حنين ينوءك الصدى
لا مزيد من الحماقات مرة أخرى، لا مزيد من الأذى
كل الأشياء الليلية كانت بارعة في تكوين لوحة الهوى كأنها قطع فيروزية هاربة من أجرام السماء ..
أشياء سمهرية تشبه مآرب العشق وفصاحة الشعر تشبه انهمار البحر وكبرياء الليل كأنها تشبهني بل وتشبهني!
لكن..
هناك خلف ستار الضياع أسرار تتراقص في ظلمة الليل، حكاية خالدة تُسّلم أنفاسها لنداء القلب، قصة تُروى وكأنها سحر إغريقي، تكتب فن يتسامى بالنفس إلى درجات النبل
لطالما تدفعني الغصة في قلبي إلى الكتابة، كلما زارني طيفي،
فابتعتُ تذكرة حتى يأخذني الليل في رحلة إلى السماء كي يتسع قلبي بجوار القمر
لا أحد يفهمني سوى الليل و البحر وفصل الشتاء، مكتظة بي ما عدتُ أستوعبني، مصابة بي وكأنّ الحياة قيّدتني داخل قلبي،
أُلاطم ضعفي في صدري و شوقي لذاتي غريق، أدمنتني حتى فاح من روحي عطري، ففاق الشوق لذاتي الضائعة تحّملي ولم أعد أستطع أن أخفيه
أحببت هذا الغياب بطريقة تشبه اختلافي عن الكل، كان دائما الجزء الأجمل في يومي تجاوزتُ فيه الجنون والضياع.
أيها الغياب،
أنت بداخلي أكثر مني،
أرهقتني كأنّك لم تجد مكاناً آخر تركن إليه غير مخيلتي!
يا نجم ليلي الآفل، أنتَ عالمي الأول والثاني والأخير، ملاذي مأمني واختبائي، أراك كل يوم بنفس الانبهار الأول، كل شيء حولي يبدو عادياً أنت القطعة الوحيدة المختلفة التي تُلائم تنهيدتي،
كيف عرقلت أبجديتي وهزمتها حتى لا تلتفت إلا إليك؟
يرعبني التفكير فيما قد أفعله من أجلك؟
لقد أخذت حيزا كبيرا من ذاكرتي تحايلتَ على، تقاسيم روحي واحتلّيت أوردتي .
لتصير أنتَ حكاية جرائمي، أنت الشعور الغريب وكل أمانيه، ممتنة لكل التفاصيل التي جعلتك في كفتيّ وكأنك تعني لي العالم كله
يا ظلي الغائب، يا حامل الحُسن في حضوري وغيابي في قربي وبعدي كيف ألفتك روحي بكل هذا اللطف !
اللهّم ربّ الراحة وربّ الشعور كُفّني عن هذا الضياع فإن هزائمي في حبّه عظيمة.
مشاعر كثيفة تعبرني وتكلّفني مجالسة الليل وعيونه الجميلة،
أفكار جريئة تزاحمني تتوارى عن ذاكرتي وتتجلى في وهم يشبهه، خطواتي إلى غيره هالكة كئيبة، هناك تفاصيل لا تُحكى إلا له
ربّاه هذا الزحام زاد الأمر تعقيدا !
هاته الرجفة وهذا الشعور أضحى سبعين ألف قلباً ومليون تنهيدة
كيف أخلق هدنة مع عقلي؟
أنهكتَني النوايا الغامضة حتى في البعد أشعر أنني أضع رأسي العنيد على كتفي وكأنه مهربي الوحيد؟
ولا أزال أكابر في حبّي وأختال بإنجازاتي العظيمة،
أحيانا أخال أنّ أعظم إنجاز قمت به هو قدرتي على البعد والتخلي، أظن أني أصدق راحتي المزعومة!
كأنّ هذا الضعف جاثم فوق صدري، أراه في كل مكان، في ذنبي وتوبتي في عتمة عمري وفي كل ركن من غرفتي، أراه في عجائب الدنيا السبع وفي وجوه العابرين
أراه في الضياء والعتمة في الزحام والفراغ في شوارع مدينتي وفي كل الأرجاء.
بقلم: هند بومديان