«صلاة الفاسيين»

حفل افتتاح المعبد اليهودي «صلاة الفاسيين» الذي جرى أول أمس تحت الرعاية السامية لجلالة الملك، وترأسه رئيس الحكومة الذي تلا رسالة ملكية موجهة إلى المشاركين فيه، لم يكن نشاطا رسميا عاديا أو عابرا، وإنما كان حدثا حقيقيا. في اللحظة التي يتنامى فيها جنون التطرف والتعصب تحت سماوات كثيرة على الصعيدين الإقليمي والدولي، يوجه المغرب هذا الدرس لبقية العالم، ويعيد التشبث والإصرار بهويته المتعددة والمنفتحة والعامرة بالثراء وبالدروس…
الكنيس اليهودي «صلاة الفاسيين» يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر الميلادي، وهو من المعالم التاريخية للثقافة اليهودية بمدينة فاس المصنفة من لدن اليونسكو ضمن التراث العالمي الإنساني، وهو ليس فقط مكانا للعبادات، وإنما يمتلك رمزية وقوة دلالة تتجاوز البعد الديني اليهودي، لتحيل على غنى الحضارة المغربية، وعلى عراقة الخصوصية اليهودية المغربية التي يمتد تاريخها المتجذر بالمغرب إلى أكثر من ثلاثة ألف عام، وهذا البعد الدلالي والحضاري هو بالذات الذي جعل الراحل شمعون ليفي مسكونا طيلة سنوات بترميم «صلاة الفاسيين» وإعادة افتتاح هذا المعبد اليهودي، وقد بذل من أجل ذلك كثير جهود ومساعي ومبادرات، بمعية فعاليات أخرى ومؤسسات وطنية وأجنبية، وأول أمس كان حفل الافتتاح تحية لكل هذا الجهد، وتكريما ملكيا ووطنيا للعمل المثابر الذي أسس له الباحث والمناضل والوطني الكبير شمعون ليفي.
الرسالة الملكية، التي تلاها رئيس الحكومة، لم تكتف بالاحتفاء بـ «صلاة الفاسيين» والتنويه بالمساهمين في إعادة الحياة والبهاء للمكان ولدلالته، وإنما تضمنت كذلك إعلان جلالة الملك عن «ترميم كافة المعابد اليهودية في مختلف المدن المغربية الأخرى لتصبح ليس فقط مكانا للعبادة، وإنما أيضا فضاء للحوار الثقافي ولإحياء القيم الحضارية للمغرب».
هذا الإعلان الملكي جسد إصرارا مغربيا على مواجهة النسيان، ودليل رفض المغاربة لفقدان ذاكرتهم وشخصيتهم المتميزة، وهويتهم الحضارية القائمة على التعدد والتعايش والانفتاح، كما أنه حمل رسالة قوية تجاه كل هذا الجنون المتطرف الذي يهجم على المنطقة والعالم بالتأكيد على أن ملك المغرب، بصفته أمير المؤمنين، الملتزم بحماية حمى الملة والدين، مؤتمن في نفس الوقت على حرية ممارسة الشعائر لكل الديانات السماوية، بما فيها اليهودية التي يعتبر معتنقوها الأوفياء من المواطنين المشمولين بموصول رعاية جلالة الملك وسابغ رضاه.
الكل في حفل فاس استوعب قوة الرسالة الملكية، وأدرك المعنى وبلاغة الإشارات، والكل أحس وأدرك هنا بالذات معنى اختلاف المغرب وتميزه عن الآخرين…
إن هذه الهوية الغنية والمتعددة للمغاربة هي صمام الأمان الحقيقي ضد التعصب والاستبداد، وهي قوة النموذج الحضاري المغربي المتفرد في المنطقة…
[email protected]

Top