هند لبداك قاصة وكاتبة مغربية تجعل من السرد أسلوبا لاختراق العالم بمعول الفضول ومصباح الفضيلة، شاقة طريقها بهدوء وبروية مُعوّلةً على ما تتبعه من كتابة متعددة الأصوات والمسالك والمعارج والمدارج، وذلك بحذر شديد من الوقوع في منزلقات التأثر والتكبر والغرور. إلا أنها تتجرأ على التأليف غير خائفة من الدخول إلى أدغال اللغة والخروج سالمة غانمة، تشيّد نصوصها على أنقاض ما عبرته من طريق وحدود لم تكن أبدا سالكة وسهلة العبور.
تكاد تكون نصوص هذه الكاتبة، قادمة من عالمها الخاص والداخلي، «عالم هند»، ومن حالتها الشخصية والذاتية والمعيشية. إذ أن النص الرومانسي والصوفي الذي تتبعه مسارا لخطّ جلّ كتاباتها هو نص لا ينزاح عن ذاتية صاحبه ونفسيته وحالته الشخصية، والحالة هنا ما كتبه جبران خليل جبران أو ما أبدعه شارل بودلير أو ما أنتجه فيكتور هوغو… هؤلاء الأدباء المتأثرة بهم هند لبداك على طول مسارها الأدبي، إلى جانب النصوص الفلسفية (فلسفة كانط الأخلاقية بالتحديد) والسيكولوجية والصوفية بالخصوص.
وقد استطاعت هند لبدك المزاوجة بين الكتابة باليد اليسرى واليمنى، إن صح تعبيرنا هذا، حيث إنها تكتب باللغتين العربية والفرنسية معا، وإن كانت بداياتها الأولى عربية صرفة. ويظل مسعى الأديبة -الدائم- هو نقل حالات الضعف والفشل والحالات النفسية التي تعتري الإنسان. ما يجعل كتاباتها في جلها كتابات سيكولوجية وصوفية في الآن نفسه.
لهذا نجدها في مؤلفها الأول «نحيب الملائكة»، لم تتجه فيه إلى أية معجمية غرائبية أو اللعب على وتر العضلات المجازية والاستعارية، التي يتم استعارها من خارج النص أو من خارج ما تروم قوله الكاتبة، فهي لا تبتغي أي بحث عن أية تراكيب لغوية مستحدثة، أو الدخول إلى عالم القوالب التجريبية، إذ تستند إلى النص الهادف ذي غاية واضحة، لا يحتاج إلى أية دعائم أو عكاكيز خارجية أو دوافع لا تنتمي إلى محركه الداخلي. إنه نص يبتدئ وينتهي هادئا ومتدفقا، عامرا بما هو روحاني ونفسي وصوفي وسيكولوجي.
إعلاء الأنا، إعلان الميلاد:
جاءت المجموعة القصصية «نحيب الملائكة» في حجم متوسط، على مدى 210 صفحات منقسمة إلى أربع قصص وهي على التوالي: «عطر البحر، خمار ودموع، إشراقة أمل، نحيب الملائكة». مكتوبة في غالبها بضمير المتكلم، حيث يغلب السرد المتساوق ويحضر «السارد الصريح». إذ أن السارد، الفاعل اللغوي، الذي يعزى إليه تقديم الحكاية إلى المخاطب السردي، يسمع صوته صريحا ومباشرا في السرد. ما يجعلنا نتتبع احداثيات وجوده في النص، بل إنه في جل النصوص هو مركز السرد وحوله تدور الأحداث. فالسارد في هذه المجموعة يكاد يعرف كل شيء عن الأشخاص، ما يجعله يرسم خريطة نفسية واجتماعية حولها، وذلك ضمن سرد متساوق /معاصر، أي أنه يعاصر الأحداث والشخوص، جامعا بين الحكي والخطاب. والمثير في هذه النصوص السردية أن جلها جاءت محكية بلسان الأنثى، خلاف قصة «خمار ودموع»، حيث يحضر السارد بصيغة المذكر، محافظا على الضمير المتكلم «أنا».
ما يتضح معه أن الكاتبة هند لبداك تحاول أن تعلي منذ البدء من صوتها السردي، وتعلن عن قيام كاتبة لها صيتها الخاص والذي لابد الاستماع إليه والإلمام بما يحاول طرحه من قضايا وحكايات. وإن أن خيط السرد يهرب أحيانا إلى الضمير الغائب، حيث يسرد الصوت الخفي الأحداث، ما يمنح المتون بعدا متعددا للأصوات، ومنه أبعادا نفسية مختلفة.
هذه النصوص المكتوبة بضمير المتكلم، جاءت مرقونة في لغة واضحة، وملموسة، وبسيطة وحيوية، عامرة بالمناجاة. لديها غاية. تتحدث إلينا، للقاراء… إنها تجذبنا إلى مناطق قليل الحفر فيها، وأحيانًا مظلمة، وأحيانًا مبتهجة، ولكنها لا تزال راسخة في الواقع، في الحياة نفسها.
تكتب هند لبداك كأنها تلمّم جراحها الدفينة، تكتب بحرقة واضحة وبألم لا تخفف من لهيبه أي جملة، إنه ألم متصاعد مع كل نص، وهذا ما يجعلها نصوصا عاطفية تواقة إلى الهدنة والشفاء والهناء. ونحن نطالع المجموعة القصصية «نحيب الملائكة» يتطلع أمامنا باستمرار الألم السيكولوجي للشخوص التي تنسج نسيج المتون، ما يجعل هذه الأخيرة متحدة من حيث الطرح ولو أنها متفرقة من حيث الموضوع. يلعب أبطال لبداك قصصهم داخل عالم من الانغلاق على الذات ومحاولة الانفتاح على الآخر، ما يولد خصاما نفسيا داخل أعماق هذه الشخصيات. فتبدو بالتالي كأنها تواقة إلى الخلاص وباحثة عن السكينة، الأمر الذي تجده دائما في البعد الروحاني والتعبدي والصوفي. لهذا نعثر عليها دائما تنتمي إلى مجتمع أو أسرة أو دائرة محافظة، تعتني بالتعفف والفضيلة والتعبد.
تُصوّر لنا هذه الكاتبة قصصا تدور أحداثها في أماكن مختلفة وغير مرتبطة لكنها تظل تدور في أجواء محافظة لأسرة تارة مسيحية أو مسلمة، غاية في وضع رؤية مشتركة بين هذه الأسر المختلفة دينيا لكنها متحدة من حيث الإعلاء من البعد الديني والروحاني، حيث تجد فيه خلاصها وراحتها، رغم المعاناة والأمراض النفسية التي ما هي إلا نتاج مآلات الحضارة المعاصرة. ونجد «فريدا» بطلة قصة «إشراقة أمل» شخصية تواقة دائما إلى الأصالة والمحافظة، شبيهة بأبطال باقي القصص الأخرى (لي، نجوى…)، إنها شخوص تنتصر للأسرة ولحمته وللمجتمع وحميميته، إذ «لا وجود للفردانية سوى في خيالات الفلاسفة»، كما تخبرنا الكاتبة.
الصراع مع الآخر:
الهلع من الرجال، صراع مع الأب، عنف الأب، عنف الزوج، الانهيار الرد الفعلي… مواضيع وأخرى تشكل ثيمة الصراع بين الأنا والآخر، الذي يكاد يكون «هو الجحيم». ويتضح من خلال أحداث القصص وطبيعة الأمكنة التي تدور فيها هذه الأحداث، يتضح أنها تطرح موضوع «صراع بين الأنا والآخر» بشكل رئيسي. وبينما كان هذا الموضوع ذا طبيعة سيكولوجية بارزة، تأخذنا هند لبداك إلى مستوياته المختلفة والمتعددة. ولا محالة أن هذه النصوص تقوم على أبعاد سردية نفسية وحكائية تشيّد عليها معمارها السردي، لهذا نجد شخوصا من مختلف الأعمار والطبقات والديانات تعيش هذا الصراع، وإن يظل صراعا بين المؤنث والمذكر، بين النساء والرجال، بين الأب وابنته، وبين الزوج وزوجته… فإذن تحاول الكاتبة الانفتاح عن المسكوت عنه في السرد العربي، فيتم رد الاعتبار للأنا وإن داخل المجتمع المحافظ الذي تدافع عنه شخوص القصص كلها.
في قصتها «عطر البحر» تصوّر لنا لبداك «لي كاستل» (الأمريكية المسيحية) التي فقدت زوجها يوم العرس، ما أدخلها في حالة نفسية من الرد الفعلي، والهلع من الآخر، من باقي الرجال، الأمر نفسه الذي تعاني منه «فريدا» (المغربية المسلمة) بطلة قصة «إشراقة أمل»، فريدا التي تصاب بحالة خوف مرضي كلما اقترب منها رجل، لهذا لم ترتبط بأي من خطابها. لا ينتهي هذا الهلع والفزع من الآخر في كلا النصين إلا عبر الزواج، لكن ليتم ذلك تطلب الأمر من كلا الشخصيتين مكابدة طويلة الأمل كان العلاج منها عبر التعبد والطب النفساني، وشجاعة كبرى منهما.
يحضر إذن الرجل /الآخر في نصوص هذه المجموعة باعتباره تارة المنقذ وتارة آخرى «الجحيم»، إنه هو ذلك السادي الذي يتلذذ برؤية معاناة ضحيته /المرأة /الأنا. والأمر يتضح في رابع القصص «نحيب الملائكة»، حيث أن الزوج (الجد) كان يعذب زوجته (الجدة)، تاركا إياها أشهرا بلا مورد رزق. ما سيترتب عنه خيانة وتعنيف، فتعيش الأسرة حالة تفكك يشابه الحالة التي «تحياها مجتمعات الحداثة»، كما تحاول تصويره القاصة.
الموت والحتمية: الخلاص والألم
يحتل الموت مكانة مهمة في السرد لدى هند لبداك، فهذا المسمى «الموت» الشيء اللامفهوم والغامض والمثير في الحياة البشرية. إنه ذلك الفزع الذي نهرب منه بتناسيه. وإنه الحتمية الوحيدة في التاريخ، فلكل شيء حي نهاية، الأمر الذي ظل يؤرق بال الأدباء والعلماء والفلاسفة. وما تطرق لبداك إليه إلا من باب معالجته روحانيا ونفسانيا، من حيث أنه محرك كل شيء.
يولد الإنسان حاملا معه تاريخ موته، إننا بالتالي كائنات مائتة، خُلقت لتموت، وهذا الهاجس شكل طرحا أدبيا كبيرا سواء لدى ألبير كامو وغابرييل مارسيل وغابريل غارسيا ماركيز (في مائة عام من العزلة) وغيرهم… بل إنه الفزاعة التي كان يخشاه البشر بما فيه الحكام، ولنا في قصة امبراطور الصين حكمة، حيث وهو يطارد الخلود أوصيَ بتناول الزئبق، ذالك المعدن السائل العجيب، فكان هو عينه داء هلاكه. ويا له من عجب أن يكون الدواء هو الداء ! ولقد كانت كل الديانات تهتم، كل دين على طريقته الخاصة، بتهيـئ الناس للموت، لموتهم كما لموت الكائن المحبوب. بل إنها كانت تدعونا، في هذا الاستعداد نفسه بالذات، إلى اكتشاف معنى الحياة البشرية.
من هذا المعطى الأخير يأتي موضوع الموت في نصوص هند لبداك بشكل مكثف وأساسي. بل قد يكون خلاصا من عذاب معين أو رحيلا مفجعا وأليما داخل قصة هادئة ورومانسية، كما هو الحال مع بطل /سارد قصة «خمار ودموع»، ذلك الشاب الذي أحب شابة محافظة وملتزمة إلا أن الأقدار شاءت أن يُجنّد ويموت فداء لوطنه، ويُكتب لنجوى زوجته أن تحزن لفراقه. فيصير الموت نهاية غير متوقعة وأليمة وحزينة إلا أنها النهاية المحتومة وإن لم تكن متوقعة. ومنه يغدو الموت دعوة للتصالح مع الذات والنفس ووضعها تحت تصرف الخالق، كما هو الأمر في التصور الديني.
ويتخذ الموت حالة الخلاص من المعاناة، كما هو الحال في قصة «نحيب الملائكة» برحيل إدوارد الذي كان يعنف زوجته، وقد يكون بداية لقصة أخرى وحياة أخرى، وإن كانت مليئة بالمعاناة فهي تنظر إلى بصيص أمل، والحال هنا قصة «عطر البحر» حينما يموت زوج «لي» يوم الزفاف، فيدخلها الأمر في حالة من الاكتئاب والاضطراب النفسي، إلا أنه ينقشع بتعرفها على رجل جديد «ريتشارد» الذي يُعَدُّ خلاصها، حلمها البحري الذي تحقق. بالإضافة لتلك القصص الثانوية، تلك القصص العابرة والمتداخلة في القصص الكبرى، والمثال هنا هو قصة تلك السيدة المسنة التي «تعاني من مرض نفسي قاتل عقب وفاة ابنها الوحيد في حادث مؤلم»، كما تقص علينا «لي». ولمكابدة الرحيل وخسران الأحبة تعيش الشخصيات تخبطا نفسانيا لا يداويه إلا التعبد والتقرب إلى الرب.
بهذا تَخُطُّ لنا هند لبداك قصصا نفسانية روحانية، تقاوم الموت بالمناجاة والسمو الروحي، عكس ما يعيشه المحدثون أمام الموت من اللامبالاة، بل إنه يكاد يكون أمرا مرضيا إن نحن طرحنا أسئلة حوله، وقد سبق لفرويد أن صرح قائلا: «إننا عندما نبدأ في طرح أسئلة حول معنى الحياة والموت، فإننا نكون مرضى، لأن لا شيء من هذا يوجد بكيفية موضوعية». وتعاكس لبداك هذه القولة في طرحها القصصي، حيث أنها تقارب تصور الوراقين وتفكير مونتي بكون الحكمة، وبشكل يقيني، تكمن في قبول نظام للعالم يحوي التناهي وأن «التفلسف»، بالتالي «هو أن يتعلم الإنسان كيف يموت». باعتبار أن الموت هو خلاص من عالم الكون والفساد.
> بقلم: عزالدين بوركة