نظم مختبر السرديات والخطابات الثقافية لكلية الآداب بنمسيك بالدار البيضاء، بتنسيق مع جمعية وادي زم للتنمية والتواصل، وجمعية شعبة اللغة العربية بخريبكة والمديرية الإقليمية لوزارة الثقافة والاتصال بخريبكة والمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بجهة بني ملال خنيفرة، الملتقى الثالث للسرد بجهة بني ملال خنيفرة، والذي حمل هذه السنة عنوان “السرد وتوثيق الهوية”، بمقر جمعية وادي زم للتنمية والتواصل.
كانت الجلسة الافتتاحية التي نسق أشغالها عبد العزيز أزغاغ مخصصة لكلمات الجهات المنظمة ولإبراز أهداف الملتقى والندوة والمتمثلة أساسا في تثمين التراث غير المادي بالجهة بصفة عامة، والتراث السردي المكتوب منه والشفوي بصفة خاصة، سواء ذلك الذي أنتج بالجهة أو الذي شكلت الجهة موضوعا له.
وأول متدخل في الجلسة العلمية الأولى التي ترأس أشغالها أحمد الجيلالي، هو أحمد الصديق بورقة موسومة بـ “صورة جهة بني ملال خنيفرة من خلال مغامرات الأسير الإنجليزي طوماس بيلو”، استهلها بلمحة مقتضبة عن طوماس بيلو الذي غادر بلاده (الإنجليز) في سن الرابعة عشر من عمره مرافقا أحد أفراد عائلته الذي كان تاجرا يركب البحار إلى مختلف البلدان، إلا أن قدره ساقه إلى الأسر في السواحل المغربية. سجن أغلب مرافقيه بسلا خلال فترة حكم المولى إسماعيل، إلا أن صغر سن طوماس بيلو، كان أحد أهم العوامل التي سمحت له بالاقتراب من مراكز القرار بالمغرب، فقد أهداه المولى إسماعيل لأحد أبنائه، كما عاش داخل القصر السلطاني بمكناس وتم تزويجه بمعية عبيد السلطان واستطاع أن يتقلد مسؤوليات داخل جيش المولى إسماعيل، وهو الأمر الذي مكنه من التنقل مع الجيش أينما حل وارتحل من فاس إلى بلاد السودان لمدة عشرين سنة. لقد عبر طوماس بيلو مجال تادلا مرات عديدة وسرد أحداثا متعددة وقعت بهذا المجال الجغرافي عايشها. كما قدم وصفا دقيقا لعادات السكان وتقاليدهم ووصف حياتهم الثقافية والدينية، كما أبرز أهم مميزات هوية جهة بني ملال خنيفرة خلال القرن الثامن عشر من خلال النص السردي لطوماس بيلو باعتباره نصا غميسا لازال بعيدا عن اهتمام الباحثين.
تلت هذه المداخلة ورقة المهدي لعرج التي حملت عنوان: “بنية الخطاب السردي وجمالياته في رحلة ليون الإفريقي” إلى جهة بني ملال، تقصى فيها بنية الخطاب السردي وجمالياته في رحلة ليون الإفريقي إلى المنطقة التي تشكل في الوقت الحالي مجال جهة بني ملال خنيفرة. إذ كانت المنطقة موزعة فيما مضى بين أجزاء مما يعرف بتادلة والشاوية وهسكورة وغيرها. واختص ليون الإفريقي هذه المنطقة بالزيارة أكثر من مرة وتحدث عنها في كتابه “وصف إفريقيا” حديثاً ممزوجاً بالمتعة والفائدة.
المداخلة الثالثة للأستاذة حليمة وازيدي المعنونة بـ “رواية رياح المتوسط للكاتب عبد الكريم عباسي بين الاضطهاد وإثبات الذات”، وهي الرواية الثانية لعبد الكريم عباسي بعد روايته الأولى “ملاذ الوهم والتيه”، ومجموعته القصصية “المصيدة”.
تنسج هذه الرواية عوالمها التخييلية بين المغرب وفرنسا، حيث تطرح الهجرة كتيمة مركزية ومحورية في النص، وما كابده جيل الستينات والسبعينات من صعوبات مع الفقر والتهميش، ومحاولة إثبات الذات عبر الهجرة إلى فرنسا. وما طرحته من صعوبات الاندماج التي واجهت المهاجرين وواقع الغربة والعزلة والبعد عن الأهل.
وركزت الباحثة في ورقتها على محورين: الأول خاص بالعنوان “رياح المتوسط” وما يطرحه من تساؤلات حول طبيعة هذه الرياح ووجهتها وتجلياتها. والثاني حول الذات المغربية بين نشوة الانتصار على المستعمر، والإخفاق في إثبات الذات. حيث تطرح الرواية قضية الأنا والآخر من منظور مخالف. إذ ترتبط هذه الرواية بهوية كاتبها، من حيث حضور الذاكرة والتاريخ الرسمي والمنسي وفي اختيار فضاءين في علاقتهما بالذات والآخر والشخوص والموضوعات.
أما المداخلة الرابعة فقد كانت للأستاذ لكبير الشميطي بمداخلة تحمل عنوان: الخصوصيات الجهوية للفنون الشعبية بجهة بني ملال خنيفرة، حاول فيها تسليط الضوء على الخصائص العامة التي تميز الفنون الشعبية بصفة عامة، والغنائية خصوصا، بجهة بني ملال خنيفرة، عن غيرها من الفنون المماثلة أو الأجناس الإبداعية القريبة منها بجهات المغرب الأخرى.
انطلق الأستاذ من سؤال: هل تتميز الفنون بجهة بني ملال خنيفرة عن مثيلاتها بالجهات الأخرى بميزات خاصة؟ وإذا كان الحال كذلك، فما هي هذه المميزات؟ إذ إننا نفترض مسبقا، بناء على دراسات سابقة لنا في الموضوع، أن أقاليم ومناطق هذه الجهة، رغم تنوعها الجغرافي، وتعدد لهجاتها ولغاتها، تحقق انسجاما على مستوى الذوق الفني، مما يجعل الفنون التي يتم إنتاجها وتلقيها متقاربة ومتميزة. فأين تكمن هذه الخصوصية؟
لقد عمل على تشريح مجموعة من الأجناس الفنية الغنائية بهذه الجهة، ومنها: فن أحيدوس وفن اعبيدات الرما، من جهة، وفن الدُّرَّيْز والزُّهَّيد وتماوايت، ثم فن العيطة بهذه الجهة، والذي يحقق، في نظرنا، انسجاما كبيرا بين مختلف مناطق الجهة رغم اختلاف طقوسه وآلاته ولهجاته، فهو يظل واحدا على مستوى الإيقاع والمضمون. ووقف عند كل جنس من هذه الأجناس الغنائية معددا خصائصه التي يتميز بها بجهة بني ملال خنيفرة.
آخر مداخلة للأستاذ محمد نجيب بعنوان “الشخصيات والفضاء والتاريخ في زغاريد الموت نموذجا”، تناول فيها التجربة الروائية الثانية للكاتب المغربي عبد الكريم جويطي في روايته “زغاريد الموت”، التي جاءت بعد روايته الأولى “شمس الليل” الصادرة سنة 1991. وقد استغرق المؤلف في كتابتها زمنا قارب الخمس سنوات، قبل أن يصدرها بشكل رسمي سنة 1996.
انطلق من العنوان باعتباره أول ما يسترعي انتباه القارئ لحظة احتكاكه الأولي بالرواية. فقد انبنى على مفارقة مثيرة، جمعت بين ما فرقت بينه الطبيعة اللغوية والإنسانية. وكأن المؤلف، بهذا الربط المفاجئ بين الأدلة، يقود قارئه إلى استشراف تفاصيل المنطق الغريب الذي أريد له أن يحكم واقع الحال في المرحلة التاريخية التي استعادتها الرواية، والتي تمتد من 1916 إلى 1952.
واستغرب الباحث من أن الزغاريد في السياق المحلي للرواية، مجاز قام على تسمية الشيء باسم نقيضه، فهي تضمر في واقع الأمر بكاء مرا ونواحا. أما الموت فاستشهاد وتضحية بالنفس والنفيس. هكذا تتغير الحقائق لحظة تشكلها، وتسمى الأشياء بغير أسمائها في نقطة تماس يتداخل فيها التاريخ والتخييل.
وقد عرج على التاريخ المحلي للمدينة باعتباره أفقا تخييليا، استمد منه المؤلف عناصر متنه الروائي، وغدت فضاءات المدينة وشخصياتها موضوع غوص عميق في تفاصيل المجال، وتشريح جمالي لترسبات مرحلة انتهت زمنيا، لكنها لعبت دورا حاسما في تشكيل صورة الحاضر.
لقد سبرت رواية (زغاريد الموت) أعماق الهامش المغربي، وصورت تجربة بني ملال الفريدة في مرحلة الحماية الفرنسية، وقدمت النسخة المحلية للمشترك المغربي ولواجب المقاومة في بداياتها الأولى بنفس إبداعي ماتع تجاور فيها التاريخ والتخييل.
منهيا المداخلة بعدة أسئلة: ما قصة زغاريد الموت؟ وكيف ساهمت شخصيات الرواية في صنع جزئيات متنها الحكائي؟ وكيف استقبلت المدينة بفضاءاتها الطبيعية والعمرانية هذا الوافد الجديد؟ ولماذا العودة إلى الماضي الذي يبدو أننا لم ندفنه، وإلى قصة نهايتها معروفة لدى كل من تخطى الغلاف الزمني للرواية بقليل؟
الجلسة الثانية التي ترأستها الأستاذة سلمى براهمة استهلت بورقة الأستاذ محمد لبيب التي حملت عنوان: “الزاوية الشرقاوية بأبي الجعد من خلال كتاب: السلكة والمعرفة في المغرب لدايل إكلمان”، حاول فيها الجواب عن سؤال: كيف حضرت الزاوية الشرقاوية بكل متعلقاتها في كتاب دايل إكلمان؟
لقد كان إكلمان يحضر إلى الجلسات المتعلقة ببحثه الذي أنجزه حول الزاوية الشرقاوية بأبي الجعد ضمن انتمائه إلى جامعة برينستون بالولايات المتحدة الأمريكية، مستفيدا من علاقته بالقاضي عبد الرحمان المنصوري كمدقق ممتاز لكل محتويات الأنماط الثقافية بمنطقة أبي الجعد.
أما الورقة الثانية فقد كانت للأستاذ ميلود الهرمودي بعنوان: نسق المعتقدات في المنظومة الاجتماعية المغربي من خلال قصة “المصيدة” الجزء الثاني لعبد الكريم العباسي”، منطلقا فيها من التحولات القيمية التي شهدها المغرب بين فترتي الاستعمار والاستقلال، إذ يعكس الصراع بين الشخصيات التمثيلية مجموعة من الأنساق الثقافية المتحكمة في بنية المجتمع المغربي، كالصدام العائلي الذي يرسخ أنظمة اجتماعية قائمة على العنف وتغليب المصلحة الذاتية والجري وراء المادة، دون اعتبار لقيم التضامن والتآزر العائلي والقيم الدينية الداعية إلى بناء مجتمع متسامح ومتماسك، بدءا من الأسرة.
معتبرا أن سيادة الظلم والطمع والتسلط والصراع بين الخير والشر، كلها أنساق تقليدية عرفها المجتمع العربي منذ أزمنة غابرة، غير أن التركة الاستعمارية سترسخها بشكل عميق في بنية العائلة والأسرة المغربيتين، فالمرحلة التاريخية – بعد الحصول على الاستقلال- تستدعي أنظمة اجتماعية حداثية، تعكس التحول الذي سيعرفه المغرب، إلا أن استمرار الأنساق التقليدية، وتعزيزها بأخرى مستمدة من الممارسات الاستعمارية، تدفع الباحث إلى التساؤل حول طبيعة المرحلة، والأنساق القيمية المميزة لبنية المجتمع المغربي. وهي إشكالات حفزتني على اقتحام عوالم المتن السردي لتتبع تجليات الأنساق الثقافية فيه، بغية بلورة تصور عام حول الأنظمة الظاهرة والمخاتلة الفاعلة في تشكل مفهوم العائلة، والتغيرات الطارئة عليه.
في حين كانت الورقة الثالثة للأستاذ الشرقي النصراوي بعنوان: “تحليل سيميائي لرواية سرير الألم للكاتبة زهرة عز”، حاول فيها مقاربة رواية سرير الألم من خلال فلسفة الأهواء وذلك بغية تشييد دلالات الأهواء في هذه الرواية وتتبع مستويات الأقوال والأفعال لبناء شعرية الألم التي تتجسد من خلال مسارات الخطاب الروائي وكيف تساهم الإضاءات اللغوية ومظاهر السرد في الكشف عن الأهواء الملتبسة في الرواية.
وقد وقف الباحث في تحليله على المعينات المكانية والاشاريات الزمنية لتحديد الاندماجات واللا اندماجات ومن تمة استقراء الوظائف المرجعية والإشارية لكل العوامل المشاركة في نبض الخطاب الروائي، ومن هنا سيمكن الحديث عن التطابق الحاصل بين العناصر الفاعلة في القول الروائي والكشف عن كل الأهواء المتصارعة على مستوى جوانية السرد وبرانيته.
الورقة الأخيرة للباحث محمد أبحير الموسومة بـ “السرد الشفوي بمنطقة دمنات أنواعه وموضوعاته”، تطرق فيها إلى التراث الشعبي باعتباره علامة من علامات تفاعل الإنسان مع الكون والطبيعة، إذ يعكس وصفا لأبرز المميزات والخصائص الجغرافية والاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية للمجال، وبالتالي فإنه يمثل الهوية الحضارية المميزة لجماعة بشرية عن غيرها، لهذا فإن توثيقه التوثيق العلمي من أوكد الواجبات، لاسيما وأن هذا التوجه سيفتح الباب على مصراعيه من أجل تثمينه ودراسته من قبل الباحثين والمهتمين، منتقلا إلى منطقة دمنات بما تزخر بالعديد من الأجناس الأدبية ذات الصلة بالموروث الثقافي الشعبي، علاوة على وجود الكثير من فنون الأداء بهذه الرقعة الجغرافية، مما يدل على سعة الذخيرة الشعبية بالمنطقة وعراقتها، فقد شكلت نقطة التقاء الأعراق والديانات التي استوطنتها منذ القدم، مما هيأ الظروف للإنتاج الثقافي في بعده اللامادي۰
وقد حدد الباحث الإشكالية العامة للبحث في دراسة الهوية الثقافية المحلية انطلاقا من مكون السرد الشفوي تصنيفا ودراسة، إذ حاول الكشف عن مظاهر وتجليات الذاكرة الشعبية المحلية في بعديها الأدبي والفرجوي، عن طريق رصد مختلف الموضوعات ذات الصلة بالثقافة الشعبية المحلية، وتحليلها تحليلا يبرز قيمتها ومميزاتها ومكانتها في النسيج الثقافي العام للمنطقة۰
أما الجلسة الرابعة والتي نسق أشغالها محمد لبيب، فقد كانت مخصصة لتكريم الدكتور محمد بن الرافه البكري باعتباره علما من أعلام الجهة، وأحد أهم الباحثين الذين أثروا المكتبة العربية بدراسات علمية في اللغة وتحليل الخطاب وبترجمات دقيقة، وقد تناول خلال هذه الجلسة الكلمة، الأستاذ عبد الرحمان غانمي الذي قدم ورقة موسعة في الاعتبارات التي كانت خلف هذا الاحتفاء والتكريم، ثم في أهمية المشروع العلمي والترجمي للبكري وضرورة عقد لقاءات أخرى حول أعماله، وركز المحتفى به كلمته بعد الشكر للجهات المنظمة على الاهتمام والحفاوة به وبمشروعه، على التذكير بأهمية توثيق تراث وتاريخ المنطقة، مؤكدا على أن ما كتبه الأوروبي عن تاريخ وتراث المنطقة وكل مناطق المغرب لم نكتبه نحن الذي علينا أن ننهض بذاكرتنا وصون هويتنا.
> متابعة: سارة الأحمر