مخاطبا زعماء حلف الناتو الذين اختتموا قمتهم في بلدة واتفورد، على مشارف لندن، أكد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أنه ما زال يأمل أن تسود المصالح بفضل تحقيق الأمن المشترك، والمستقبل الآمن والسلمي لكوكبنا، وللعلاقة بين روسيا ودول حلف شمال الأطلسي.
روسيا، كما أكد بوتين، منفتحة على التعاون مع حلف شمال الأطلسي، ومستعدة لمقاومة التهديدات الحقيقية، بما فيها الإرهاب الدولي والنزاعات المحلية المسلحة وخطر الانتشار المنفلت لأسلحة الدمار الشامل.
النوايا شيء، والأفعال شيء آخر، الحرب التي كانت في الماضي باردة، أصبحت حربا ساخنة. حلف الناتو سارع للتمدد إلى جمهوريات سوفييتية، متاخمة للحدود الروسية، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. الخطوة التي رأى فيها بوتين تصرفا “غير لائق وربما وقحا”.
توقعت روسيا أن ينهي تفكك الاتحاد السوفييتي الحرب الباردة، التي سادت العلاقات بين موسكو والغرب بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وانتظرت على الأقل من حلف الناتو أن يراعي المصالح الروسية.
ما حدث هو العكس، سارع الناتو إلى تطوير بنيته التحتية العسكرية قريبا من الحدود مع روسيا، الأمر الذي رأى فيه بوتين تهديدا لأمن بلاده. بينما لم يعد حلف وارسو الموقع بين السوفييت والحلفاء الأوروبيين قائما منذ تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991.
وفي الوقت الذي تزايدت فيه الانتقادات ضد واشنطن، لتخليها عن شركائها في المنطقة وتقليص وجودها وأنشطتها في ليبيا وسوريا والعراق، كانت روسيا قد بدأت فعليا في ملء هذا الفراغ. ويعد نفوذ موسكو المتزايد في سوريا، وسط ما تشهده من حرب أهلية، ودخولها أيضا في النزاع الدائر في ليبيا، من بين التطورات الإقليمية المهمة.
وكانت سياسة واشنطن في ليبيا قد اتّخذت منحى سلبيا في أعقاب هجوم 11 سبتمبر 2012 على مجمع دبلوماسي أميركي في بنغازي شرقي ليبيا، أسفر عن مقتل ثلاثة موظفين أميركيين، بينهم السفير كريستوفر ستيفنز، و10 من ضباط الأمن المحلي.
وإن كانت المخاوف بين روسيا ودول الناتو أمنية بالدرجة الأولى، فإن مخاوف الناتو تجاه الصين تجارية تتخفى بذرائع أمنية. وبمقدار ما أتاح التأثير المتزايد للصين وسياستها الدولية من فرص، خلق أيضا الكثير من التحديات، التي أشار إليها البيان الختامي لقمة الناتو، التي انعقدت بمناسبة تأسيس الحلف قبل سبعين عاما، معتبرا الصين عدوا جديدا محتملا.
ورأت دول الناتو في الجيل الخامس المعياري لشبكات المحمول، الذي تعتبر شركة هواوي الصينية الرائدة فيه، مجالا إشكاليا محتملا. وترى الولايات المتحدة من جانبها أنه لا يمكن إقامة شبكات آمنة باستخدام منتجات شركة هواوي، خوفا من أن تمرر الشركة في بعض الحالات بيانات لمستخدمي هذه المنتجات إلى حكومة بكين.
تاريخيا تصنف كل من روسيا والصين، ضمن معسكر الأعداء، كلاهما خصم منذ زمن الحرب الباردة.
المفاجأة كانت في الموقف التركي، حليف الناتو، فقد شهدت العلاقات بين تركيا وشركائها في الحلف تدهورا ملحوظا في الفترة الأخيرة، بسبب عدد من القضايا، بدءا بقرار أنقرة شراء أنظمة دفاع جوي روسية وصولا إلى السياسات المتعلقة بسوريا. وأدان أعضاء في الحلف قرار أنقرة شن هجوم في شمال شرق سوريا على وحدات حماية الشعب الكردية.
ولم تكن هذه هي نقاط التدهور الوحيدة، فخلال قمة لندن ظهر المزيد من الخلاف بين أنقرة والناتو. وقد أعد حلف شمال الأطلسي في مستهل قمة لندن خطط دفاع لحماية دول البلطيق وبولندا لمواجهة تطلعات التوسع الروسية الممكنة. لكن أنقرة رفضت الخطط، واشترطت للموافقة عليها، تصنيف الحلف العسكري لوحدات حماية الشعب الكردية منظمةً إرهابية.
كان حلف شمال الأطلسي قد اعتبر في الماضي وحدات حماية الشعب الكردية “فرعا من حزب العمال الكردستاني في سوريا” وصنفها تهديدًا إرهابيًّا. ويهدد الطرف التركي اليوم بالفيتو ضد مخططات الدول الأعضاء الأخرى، ما لم تعتبر وحدات حماية الشعب الكردية في برنامج الدفاع منظمةً إرهابية. وهو مطلب بعيد عن التحقيق؛ فوحدات حماية الشعب الكردية تقاتل إلى جانب الأميركيين بنجاح ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
ببساطة شديدة لا يمكن وضع وحدات حماية الشعب الكردية على لائحة المنظمات الإرهابية، بينما تعتبر مقاطعة خطط الدفاع عن بلدان منطقة البلطيق تهورا من تركيا. فهذه البلدان توجه، حسب الناتو، تهديدا حقيقيا من قبل روسيا، خاصة بعد أزمة أوكرانيا. وهي بلدان لا تعادي تركيا. والربط بين هذين الموضوعين؛ وحدات حماية الشعب الكردية وبرنامج الدفاع، مخاطرة كبرى تقْدم عليها أنقرة.
لن يترك الأميركيون هذه الخطوة تمر دون عقاب، وحتى العملية العسكرية، التي أطلقت تركيا عليها اسم “نبع السلام”، وتوغلها في شمال سوريا، كانا إهانة من وجهة نظر الشركاء في حلف الناتو. فالعملية التي تلبي المصلحة السياسية الأمنية لأنقرة، تتضارب بشكل واضح مع مصالح غالبية بلدان الناتو، التي ترى أن هذا التدخل العسكري التركي قوى بشكل كبير روسيا، منافس الحلف في المنطقة، ومكنها من توطيد وجودها في سوريا.
وبينما يعمل رجب طيب أردوغان على تحويل “المنطقة الآمنة” في شمال سوريا إلى “ممر سلمي”، وتوطين لاجئين سوريين فيها مقيمين حاليا في تركيا، يرى شركاء الحلف أن العملية العسكرية التركية “مخالفة للقانون”.
دقت ساعة التغيير وقال أردوغان إن أعضاء الناتو ملزمون بإجراء تغيير يتيح اتخاذ مواقف صارمة تجاه كافة التنظيمات الإرهابية، مضيفا أنه في حال لم يعتبر الحلفاء في الحلف “منظمة نحاربها إرهابية سنواجه أي خطوات يمكن أن تتخذ هناك”، في إشارة إلى خطة الناتو للدفاع عن دول البلطيق.
وفيما تضغط أنقرة على الحلف لدعم قتالها للمقاتلين الأكراد في سوريا، حثّ وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر تركيا على الكف عن إعاقة خطة الناتو للدفاع عن دول البلطيق وبولندا.
ولا تخرج إيران، التي عملت على بسط نفوذها في المنطقة، من خلال حلفائها في لبنان والعراق، ودعمها المباشر للنظام السوري وجماعة الحوثي في اليمن، عن دائرة المخاوف. وأوردت صحيفة وول ستريت جورنال الأربعاء أن الإدارة الأميركيّة تعتزم تعزيز وجودها العسكري في الشرق الأوسط لمواجهة التهديد الإيراني، فيما نفى البنتاغون هذه المعلومات.
وكتبت الصحيفة أن الولايات المتحدة نشرت منذ الربيع 14 ألف جنديّ أُضيفوا إلى حوالي 70 ألف عسكريّ متمركزين أصلا “لضمان الأمن في المنطقة”. ونقلت وول ستريت جورنال عن مصادر لم تُسمّها، أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد يعلن رسميا خلال الشهر الجاري مضاعفة التعزيزات التي تم نشرها منذ مايو. كما أن البنتاغون قد يرسل أيضا، إضافة إلى هذه القوات، العشرات من السفن الحربية الإضافية.
ووفقا للصحيفة فإن الهدف من إرسال هذه التعزيزات هو ردع إيران عن شن هجوم على المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. ووقعت حوادث وهجمات عدة خلال الأشهر الأخيرة من عام 2019 في المنطقة، نسبتها مصادر عديدة -بينها واشنطن- إلى إيران.
واتهمت دول غربية طهران بالوقوف وراء ضربات جوية استهدفت منشأتي نفط سعوديتين، ما أدى إلى شل قسم من الإنتاج النفطي السعودي، وتسبب في ارتفاع أسعار الخام.
وفي أكتوبر، انتقد وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر “الموقف الخبيث” لإيران و”حملتها لزعزعة استقرار الشرق الأوسط وتعطيل الاقتصاد العالمي”.
هناك انقسام واضح بدأت معالمه تتضح، ينبئ بحرب لن تكون باردة بين الولايات المتحدة ومعها باقي أعضاء حلف الناتو، والثاني بزعامة موسكو، ويشمل الصين التي تواجه حربا تجارية أعلنها عليها الرئيس الأميركي. وتقف على مبعدة منه تركيا، التي لن تجد حرجا في الانضمام إليه في حال لم تتم الاستجابة لمطالبها.
بينما تجد إيران نفسها خارج المعسكرين، إلا أنها ستكون مجبرة في النهاية على اختيار أحد الطرفين، في الغالب لن يكون الطرف الغربي. ولن يكون بمقدور الدول الأخرى البقاء خارج دائرة الاستقطاب، ففي عالم اليوم، وفق المنطق الأميركي، من ليس معنا فهو ضدنا.
الحرب التي كانت في الماضي باردة أصبحت اليوم ساخنة
الوسوم