إذا كنت قادرا على تنفيذ أعمالك ومزاولة أنشطتك من موقعك اعتمادا على التكنولوجيا التي تساعد على تحسين كفاءة استهلاك الموارد وتحسين مستوى المعيشة وتوافر خدمات جيدة وسريعة والتنقل بسهولة، وتوفير بيئة آمنة أقل تلوثا، فكل هذه مؤشرات تُدل على أنك تعيش في مدينة ذكية.
تستشرف “المدن الذكية” المستقبل على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وتتلخص الغاية منها في توفير بيئة رقمية صديقة للبيئة ومحفزة للتعلم والإبداع، تسهم في توفير بيئة مستدامة تعزز الشعور بالسعادة والصحة.
هناك أكثر من تعريف لمصطلح المدن الذكية، وأحيانا أكثر من تسمية، مثل “المدن الرقمية” و”المدن الإيكولوجية”، تختلف باختلاف الأهداف التي يسعى المسؤولون لتطويرها.
ومن الأسئلة التي تتردد يوميا، ما هو أثر الذكاء الاصطناعي على مدن المستقبل، وعلى خيال المهندسين المعماريين والمصممين؟
هذا السؤال شكل محور بينالي شينزين للعمارة جنوب الصين، الحدث الذي يجذب أكبر عدد من الزوار على مستوى العالم.
من بين أجنحة البينالي، تميز جناح “عيون المدينة”، طرح فيه مصممون معماريون رؤاهم ومخاوفهم حول تأثير الذكاء الاصطناعي على مستقبل الهندسة المعمارية، إلى جانب قضايا عكس فيها المعماريون هموما تتوزع بين البيئة وصولا إلى العزلة الاجتماعية.
مع تنامي توظيف الذكاء الاصطناعي في المدن، سنصل إلى مرحلة نتفاعل فيها مع أدق التفاصيل، ونعرف فيها كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالمدن التي نعيش فيها. لن يتم إقصاء أي من سكان المدن، كل حدث تتم مراقبته ومتابعته، ويأخذ مكانه على الخرائط.
حتى اليوم، كان تركيزنا منصبّا على البشر، وفق علماء النفس والاجتماع، الذين يؤكدون أن الإنسان منذ أن تخلى عن الصيد والرعي وسكن المدن فقد التركيز والاهتمام بالمحيط الخارجي؛ مع دخول الذكاء الاصطناعي سنتعلم الاهتمام بالتفاصيل التي تشكل بيئتنا الحضرية، وبالتالي ينمو وعينا بالقضايا المتعلقة بتخطيط المدن؛ لن تقتصر علاقتنا معها، كما كانت في الماضي على علاقة سياحية، ولن تعود المدن بعد ذلك مجرد معالم من صنع الإنسان.
على مدى عقود طويلة سكن الإنسان المدن، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنه أصبح جزءا منها؛ هناك الكثير مما يتوجب علينا اكتشافه في مدن المستقبل، وسينمو حجم المعلومات مع نمو التقنيات الجديدة وتطورها ونشرها وتخصيصها، كل ذلك سيساعدنا في رؤية المدينة والأنظمة المسيرة لها بطريقة مختلفة عما اعتدناه.
وبمرور الوقت، ستزول الفواصل بين الهندسة المعمارية وهندسة المدن، لتتداخل في ما بينها، لن يستطيع المعماريون الاستمرار في تجاهل من يشاركهم العيش في المدن.
رجل شرطة آلي
حتى وقت قريب كنا نعيش في مدن صماء، لا تسمع، لا ترى ولا تتكلم، واليوم بدأت المدن تكتسب القدرة على الرؤية والاستماع، والأهم من ذلك أصبحت قادرة الآن على التحدث معنا.
لقد بدأت تأثيرات الذكاء الاصطناعي في تغيير البيئة والمحيط من حولنا، وتشهد المدن صعود ما يسمى الذكاء الحضري (UI). اليوم، يمكن جمع كميات كبيرة من المعلومات بواسطة أجهزة استشعار دقيقة، وأجهزة إلكترونية محمولة.
تسمح أجهزة الاستشعار التي يشار إليها باسم “التكنولوجيا الحضرية”، للسيارات والحافلات والدراجات وحتى السكان بجمع المعلومات حول جودة الهواء، والتلوث الضوضائي، والازدحام، والبنية التحتية، وقائمة طويلة أخرى من البيانات.
التغيرات التي تطرأ على المدن ستطال حياتنا، فكريًا، وجسديًا، وعاطفيًا، خاصة مع تنامي تقاطع التكنولوجيا مع المجتمع، والانتشار الواسع لـ”إنترنت الأشياء”.
هذا هو التحدي الكبير الذي سنواجهه خلال العقود القليلة القادمة. التكنولوجيا الرقمية، التي بدت في أيامها الأولى مجرد لعبة يتسلى بها الكبار، أصبحت أداة لإعادة اختراع العالم. لكن أي نوع من العالم؟
النبوءة التي تحدث عنها الباحث الأميركي، نايل جروس، رئيس قسم علم الاجتماع في كلية كولبي بالولايات المتحدة، في نهاية التسعينات، تتحقق تدريجيا؛ مع التطور المتسارع في تقنيات الاتصال وتبادل المعلومات “في القرن القادم، سترتدي الأرض جلدا إلكترونيا، وتستخدم الإنترنت لدعم ونقل أحاسيسها”.
مشهد قد يصير مألوفا في كل مكان
وكما يتكون الجلد الحقيقي من ملايين الخلايا المتصلة في ما بينها، تنقل المعلومات عن العالم الخارجي وتستشعر البرودة والحرارة والألم، وتعمل كدرع لمنع اختراق الجسم، فإن الجلد الإلكتروني يتكون من ملايين الأجهزة المتصلة التي تعمل كشبكة ذكية تتشارك المعلومات والبيانات بلا انقطاع، لتقوم بمهام كانت حكرا طوال التاريخ على البشر، مثل التحليل والتنبؤ واتخاذ القرارات.
بعد أن اكتست مدن المستقبل جلدا إلكترونيا، باتت تسمع، ترى وتتكلم.
ما حسبناه محض خيال علمي، حتى فترة قريبة، بدأ يتجسد أمامنا في الواقع، تمتلئ المدن بأجهزة استشعار تمنحها القدرة على المشاهدة والسمع، تمكن من جمع البيانات وتحليلها لتحسين كفاءة عمل المدينة وإدارتها.
هناك نماذج عديدة يمكن أن تسهم من خلالها المدن الذكية في تحسين جودة الحياة، أبرزها الشبكات الذكية التي تستخدم تكنولوجيا الاتصالات في إدارة شبكات الكهرباء، إذ توفر معلومات عن نمط استهلاك الطاقة وتوفير عدادات ذكية تساعد في تحسين استخدام الطاقة.
اليوم، بات بالإمكان إدارة الأماكن العامة بكفاءة وسيطرة تجنب حدوث الجرائم، وتساعد التطبيقات الحديثة على توفير بيانات عن مناطق الاختناقات المرورية بهدف تفاديها، وتحسين حركة السير المرورية، واستخدام أجهزة لقياس نسب التلوث والتحكم فيها.
كما أن هناك توجها لتوفير شبكات من السيارات ذاتية القيادة، تؤمن النقل الشخصي للزبائن عند الطلب، إلى جانب تطوير حلول توفير الخدمات المالية إلكترونية، لاسيما عبر تقنية “البلوك تشين” الأكثر أمانا للحسابات المالية.
رقابة مشددة عن بعد
وفي ظل تكدس أكثر من نصف سكان العالم في المدن، ومسؤولياتها عن أكثر من 70 في المئة من انبعاثات الكربون، واستحواذها على 60 إلى80 في المئة من استهلاك الوقود، وفقًا لبيانات الاتحاد الدولي للاتصالات، فإن قرار التوجه للمدن الذكية لم يعد رفاهية.
وتجاوزت حلول المدن الذكية حاجز الخدمات الاقتصادية والاجتماعية، بل وفرت أيضا ابتكارات تتيح التصويت في الانتخابات عبر الهواتف الذكية، مع توفير حماية كافية ضد أعمال الاختراق.
ارتبطت التجارب الناجحة للمدن الذكية بتطبيق مفهوم قائم على إشراك السكان ووضع مصالحهم في الصدارة، وهو ما تبنته المدن الذكية العشر الأفضل في العالم، وفقًا لدراسة أجرتها جامعة غلاسكو الاسكتلندية.
وبنظرة على قائمة أهم عشر مدن ذكية في العالم، يلاحظ المتابع أن كلها تقريبًا مدن وعواصم تاريخية، لم تسع للتخلص من سكانها أو إهمالهم لصالح سكان جدد، بل أضافت طبقات من الرقمنة.
وتضم القائمة كلا من لندن، وباريس، وأمستردام، وبرشلونة، وسنغافورة، وبوسطن، ونيويورك، وبرلين، ومومباي (في الهند) وتورنتو، وجميعها عواصم أو مدن تاريخية مأهولة منذ قرون.
وتعد دبي الأكثر حضورا في الشرق الأوسط في عالم المدن الذكية، منذ أن بدأت في عام 2013 مشروع التحول لمدينة ذكية، يتم فيها إدارة كافة المرافق والخدمات عبر أنظمة إلكترونية ذكية ومترابطة.
وفي المملكة العربية السعودية تم وضع أكثر من مدينة في الخطة للتحول إلى مدن ذكية، في إطار بلورة رؤية 2030.
وتعمل المدن الذكية كآلة عملاقة ذات كفاءة عالية، تحت الإشراف، وبما يتلاءم مع أهداف المسؤولين الذين تحولوا إلى “عيون وآذان خفية”.
المدينة ليست آلة، إنها كائن حي، يتكون من البشر، رجالا ونساء، يختلفون ويتميزون عن بعضهم البعض، إضافة إلى البيئة التي يساهمون في تشكيلها بطريقة جماعية.
ولكن، قبل أن تسيطر علينا المدن الذكية بأجهزة استشعارها، نحتاج أولا وضع مجموعة كاملة من اللوائح والقوانين التي تكفل عدم تحول هذه التقنيات والبيانات إلى سلاح بأيدي السلطات يستخدم للتعدي على خصوصيات البشر.