سيبقى اسم ديديه راؤول راسخا في ذاكرة العالم بعد تجاوز أزمة كورونا، وبخاصة الفرنسيين. فالطبيب والباحث المثير للجدل والمتمرد على بروتوكولات الأرستقراطية الطبية الباريسية، والمولود في السنغال، والمستعين في مخبره بعرب وأفارقة، والرافض للإملاءات الرسمية، تحول إلى ظاهرة في بلاده، وإلى نجم لدى وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي. وبين استطلاع رأي لمعهد ”أدوكسا“ أنه احتل المركز الثاني في مقياس الشخصيات السياسية المفضلة لدى الفرنسيين، ما جعل الرئيس إيمانويل ماكرون ينتقل في التاسع من أبريل الجاري إلى مدينة مرسيليا ليزوره داخل المعهد الاستشفائي المتوسطي للعدوى، وليتحادث معه ويطلع على أفكاره المدافعة بالأساس عن استخدام مادة الهيدروكسي كلوروكين لمعالجة مرضى فايروس كورونا المستجد، وعن نتائج تجربته في هذا السياق في 20 مارس الماضي.
كشفت دراسة ثانية أجراها راؤول مع فريقه العلمي، فاعلية مزيج دوائي يتكون من عقار هيدروكسي كلوروكين ومضاد حيوي، في علاج عشرات المصابين بفايروس كورونا المستجد كوفيد – 19، وقال راؤول إن الدراسة الجديدة أكثر اكتمالا، حيث شملت 80 مريضا تم علاجهم بعقار هيدروكسي كلوروكين مع أزيثروميسين لمدة من 6 إلى 10 أيام، داعيا إلى التمهل لرؤية إيجابيات فعالية العقار، وأضاف إن تجارب سريرية أجريت على مصابين بالفايروس أثبتت أن هذا الدواء يعطي نتائج جيدة، مبيّنا أنه كان قد اقترحه منذ عشرين عاما وهو موجود في كل الكتب المرجعية في العالم، ومن بين من يوصف لهم كبار السن المصابون بمرض كورونا.
تطويق انتشار العدوى
يرى راؤول، أولا، ورغم كل الدراما السائدة حول فايروسات الجهاز التنفسي الجديدة، أنه لا يجب أن تخفى حقيقة مهمة، وهي أن الوفيات الناجمة عن التهابات الجهاز التنفسي تستمر في الانخفاض، ووفقا للمعلومات المتوفرة، فإن التهابات الجهاز التنفسي البكتيرية والفايروسية التي كانت تسبب 4.5 ملايين حالة وفاة قبل ثلاثين عاما، تقتل حاليا 2.6 مليون شخص، وهو انحدار مذهل، بسبب تحسن الظروف الصحية واستخدام المضادات الحيوية، مما يجعل من الممكن تقليل العدوى الفائقة والمميتة، خصوصا بالتطعيم ضد مرض المكورات الرئوية عند الأطفال الصغار جدا، والذي يحمي أيضا كبار السن.
ثانيا، يقول راؤول إن سرعة رد فعل الصينيين في إدارة الأوبئة كانت مذهلة، خاصة في تقييمها للجزيئات المضادة للعدوى. فلقد تمكنوا من إثبات أن الكلوروكين، أحد أكثر الأدوية الموصوفة والأبسط في العالم، ربما يكون أفضل علاج للفايروسات التاجية وأفضل وسيلة للوقاية. مما يجعلها من أبسط التهابات الجهاز التنفسي القابلة للوقاية والعلاج.
معطيات مجهولة
في كتابه الجديد المؤلف من 90 صفحة، والذي كتب في شهر واستهدف الجمهور العام، يحلل الطبيب المتمرد في 14 فصلا قصيرا نسبيا، كيف كان الخوف مفرطا، من هجمات الجمرة الخبيثة التي كانت وباء كاذبا لإثارة الرعب من الإرهاب البيولوجي، ومن أوبئة إنفلونزا إتش1 إن1، وزيكا أو تفشي فايروسات سارس وميرس.
وبدلا من ذلك، خصص راؤول عدة فصول لأوبئة الكوليرا والتيفوس التي عادت إلى الظهور أثناء النزاعات في أفريقيا في عقد التسعينات من القرن الماضي، فهما وفق تعبيره أزمتان صحيتان “منسيتان أو مهملتان”، تماما مثل الموجة من الوفيات الناجمة عن موجة الحر عام 2003 في فرنسا.
وبأسلوبه المباشر الذي يراه البعض متجاوزا للياقة، يهاجم راؤول المخابر الصيدلانية مرارا وتكرارا، ويشتبه في أنها تستفيد من الخوف الناجم عن أمراض جديدة، ويتهم السلطات الطبية بتعمدها تجاهل عمل العديد من الأطباء الرواد، الموهوبين وضد التيار، هو واحد منهم.
لا تزال هناك العديد من المعطيات المجهولة حول العديد من الفايروسات التاجية، منها فايروس ميرس الذي ظهر في المملكة العربية السعودية عام 2012، والذي لم ينتشر في دول أخرى، على الرغم من ظهوره في بلد يزوره ملايين الحجيج والمعتمرين كل عام، فقد بقي ميرس حيث ولد. والوباء الثانوي الوحيد الذي يمكن أن يذكر كان في كوريا الجنوبية، حيث كانت هناك حالات مرضى في المستشفيات، غير أن ”سبب العدوى لم يفسر“. بينما لا يستبعد راؤول، مستشهدا بأحد معاونيه، أن عادة البصق من قبل العديد من الصينيين كانت ناقلة مهمة للعدوى.
في إشارة إلى ضجيج وسائل الإعلام الناجم عن أوبئة زيكا أو سارس أو ميرس، يلاحظ راؤول أن نتائج جميع هذه الأوبئة التي من المفترض أنها مخيفة، لم تتجاوز 10 آلاف حالة وفاة، وعلى النقيض من ذلك، تسببت الأوبئة المهملة الأخرى مثل الكوليرا في أفريقيا وخاصة في هايتي في مقتل 10.000 شخص، واصفا التحذير من فايروس كوفيد – 19 بأنه ”هستيريا عالمية“، ومشيرا إلى أن الوباء الذي ظهر في ووهان في ديسمبر الماضي، وعلى الرغم من حقيقة أن “معدل الوفيات أقل مما تم الإعلان عنه في البداية”، فإن ضعف الخدمات الصحية في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، أدى إلى وفاة الآلاف.
ويتابع راؤول قائلا إن الالتهابات الفايروسية الجديدة تحل محل الحمى النزفية في خيالنا؛ الإيبولا والطاعون والتيفوس والكوليرا التي أخافت أسلافنا.
في منتصف مارس، أعلن راؤول أن العلاج بالكلوروكين أدى إلى نتائج ممتازة لدى 24 مريضا مصابا بالفايروس التاجي. ومع ذلك ترفض السلطات الصحية الفرنسية باستمرار التوصية بهذا العلاج، بحجة أن البروتوكول أو ”مراقبة العلاج في عدد كبير من عينات المرضى“ لم يتم اتباعه وأنه يجب إجراء فحوصات على الآثار التسلسلية المحتملة لهذا الدواء.
تأخرت السلطات الصحية في فرنسا في اختبار وصفة راؤول، سوى على أولئك الذين هم في حالة خطيرة. بينما تم حث الآخرين على البقاء في المنزل إذا كان لديهم شكل معتدل من الإنفلونزا أوعدوى فايروس كوفيد – 19، وكان السبب تجنب التحميل الزائد على المستشفيات التي استنفدت طاقاتها بالفعل من خلال تخفيضات الميزانية وحالات التسريح من العمل في السنوات العشرين الماضية. ومع ذلك اتضح الآن أن سبب هذه الاستراتيجية هو أن فرنسا لم تكن لديها هيكلة كافية للمهنيين الصحيين.
طالب فاشل
راؤول يعتقد أنه يجب القيام باختبار كل شخص لديه أدنى درجة حرارة، وإذا كان إيجابيا، فيجب تناول الكلوروكين والمضادات الحيوية، مؤكدا أن تدابير العزلة القاسية لا معنى لها. الحل بالنسبة إليه أن يخضع كل شخص للفحص ويتلقى المصاب العلاج الثنائي.
انطلقت دعوة راؤول لتغزو العالم، ولتفتح باب الأمل أمام الأطباء والمصابين والخائفين من انتقال عدوى كوفيد – 19 إليهم، وفي 26 مارس الماضي، وقع رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب، ووزير الصحة أوليفييه فيران، على قرار يسمح بوصف دواء “الكلوروكين” للمصابين بفايروس كورونا المستجد، وجاء في القرار أن الدواء المذكور ”يمكن وصفه وإعطاؤه للمرضى المصابين بفايروس كورونا المستجد تحت مسؤولية الطبيب، في مؤسسات الرعاية الصحية التي توفر لهم الرعاية“.
ولد ديديه راؤول في 13 مارس 1952 في داكار، عاصمة السنغال حيث كان والده طبيبا عسكريا، ومؤسسا لمنظمة أبحاث الغذاء والتغذية الأفريقية، وكانت والدته ممرضة، في العام 1961 انتقلت الأسرة إلى مرسيليا. درس المرحلة الثانوية في مدينة نيس، ثم في مدرسة داخلية في مدينة بريانسون بقسم الألب العليا، في إقليم بروفنس ألب كوت دازور، وكل المؤشرات كانت تقول إنه طالب سيء وفاشل، لذلك غادر الدراسة وهو في عمر 17 عاما، ليعمل لمدة عامين على متن قوارب وسفن تجارية.
في مطلع السبعينات اجتاز البكالوريا الأدبية كمترشح حر ثم التحق بكلية الطب في مرسيليا 7 لأن هذا الانتساب الجامعي الوحيد الذي وافق والده على تمويله، فأكمل التدريب بنجاح وحصل على الدكتوراه. أراد أن يصبح طبيبا متخصصا في التوليد، لكن تصنيفه الداخلي مكنه من أن يصبح متخصصا في الأمراض المعدية، مثل جده الأكبر بول ليجيندري.
إرهاب بيولوجي
اكتشف راؤول طريقة لزراعة الريكتسيا، وهي جنس من البكتيريا غالبا ما تنتقل عن طريق المفصليات ولا تعيش إلا متطفلة داخل خلايا العائل، ما مكنه من دراستها.
وفي عام 1983 أنشأ وحدة الريكتسيا بعد أن أصبح أستاذا، ثم أشرف على إنجاز أطروحات عن الأمراض المعدية في كلية العلوم الطبية وشبه الطبية في مرسيليا، ليصبح رئيسا لجامعة البحر
المتوسط إيكس مرسيليا الثانية، حيث تم انتخابه مقابل ميشيل فوجيرو، وبناء على طلب الحكومة. وبعد ظهور وباء السارس كتب راؤول تقريرا عن الإرهاب البيولوجي والمخاطر الوبائية، أشار فيه إلى عدم استعداد نظام الرعاية الصحية الفرنسي في حالة تفشي جائحة ما. وأوصى بخطاب تأسيسي رئيسي بسياسة صحية جديدة تكون قادرة على توقع المخاطر الوبائية بشكل أفضل، والتي يرى أنها ستصبح أحد التحديات الرئيسية في عالم مترابط.
ترأس وحدة الأبحاث حول الأمراض المعدية والاستوائية الناشئة في مرسيليا وداكار، ومعهد أبحاث التنمية وجامعة الشيخ أنتا ديوب في داكار، وحصل على جائزة إنسيرم الكبرى عن إنجازاته العلمية طوال حياته المهنية في مواجهة الفايروسات واكتشافه للفايروسات العملاقة، ونال في عام 2015 جائزة مؤسسة لويس د. فرنسا، لدراسته حول ذخيرة الميكروبات في الجهاز الهضمي وتطور نشاط المضادات الحيوية.
كانت لراؤول نظرة استشرافية أثبتت صدقيتها في مناسبات عدة، لذلك كان كثيرا ما يرفع صوته بعبارته الاستفزازية ”أنا الأفضل في العالم“. وهو لا يقول ذلك اعتباطا، وإنما لأنه يحتل المركز الأول عالميا في البحث والإنجاز حول الأمراض المعدية، ويعتبر أحد الباحثين الفرنسيين الأكثر استشهادا بنظرياتهم على الصعيد العالمي، كما تم تكريمه بأن أطلق أسمه على جنس من البكتيريا البروتينية أصبح يعرف باسم راؤولتيلا، إضافة إلى حصوله على العديد من الأوسمة الفخرية الفرنسية.
كل هذه الإنجازات والتكريمات لم تشفع له أمام محاولات عزله في بلاده، عندما افتتح المجمع المتوسطي للأمراض المعدية بمرسيليا، لم يلب أي مسوؤل فرنسي كبير دعوته للحضور، وجوبه بنكران المؤسسات الحكومية في فرنسا، وحاربته وزيرة الصحة الفرنسية السابقة أغناس بيزين لأنه كان على خلاف مع زوجها إيف ليفي المتخصص في فايروسات نقص المناعة البشرية، والرئيس السابق للمركز الوطني للصحة والبحوث الطبية.
حتى أن وسائل إعلام فرنسية كثيرة أكدت أن راؤول تعرض لعزلة فرضتها عليه الارستقراطية الطبية الباريسية التي تمتعض من تسريحة شعره ومن هندامه ومن لهجته ومن جرأته ومن وقوفه ضد التيار، كما تعرض لمحاولات الإساءة إليه بزعم أن تحرشات جنسية دارت في مجموعته الطبية، ما جعله يرد بتهكم ”حسنا، لقد لفتّم انتباهي بأن مجمعنا سوق دعارة، من الآن فصاعدا سنأتي بماكينات لتوزيع الواقيات الذكرية“.
اضطرت فرنسا إلى تعميم وصفته التي انتشرت عالميا، وحين زاره ماكرون في مجمعه الطبي بمرسيليا، اكتشف أن لا فرنسيّ هناك، وأن كل الباحثين أفارقة وعرب ممن وصفهم بأنهم الأكثر ذكاء وحيوية في فرنسا.