ولأن وحدتي كثيرة أكتب حتى أتناسى، أكتب حتى أنسى أني امرأة أجهضتها المآسي ذنبها الوحيد أنها ولدت أنثى من رحم امرأة مبعثرة تصارع الحاضر الذي اختلط بالأمس، في مجتمع فتح بوابة الجحيم أمام أحلامها، مجتمع يرفض أن يعترف بها لأن صوتها عورة، طوحها جريمة ونجاحها عار.
أكتب حتى أنساب مع عتمة الليل بهدوء، حتى أتخدر من شوق ذكرى لا تموت، حتى أفقد نفسي من كل هذا الضغط الهائل الذي يحاصر وحشتي.
كيف أخبركم أن التفكير يجعل المرء يغرق!
لا أعرف كيف أشرحها لكن أعلم أنكم أدركتم ما أقصده بشكل ما !
إن أسوء ما قد يحدث للمرء يا صديقي أن يذهب عمرك أدراج الريح، أن لا تحصد تعب السنين القاسية، أن تهينك الحياة بهزائم لا تليق بك، أن تقطف الأيام مرارة الشعور وتدرجه في قاطرة مثقوبة، أن تنظر للأشياء التي احترق قلبك لأجلها بقرف، أن لا تتمنى عودة الشتاء لأنه يذكرك بلحظة دفعت كل ما تملك لأجلها دون أن تحظى بها.
كيف أخبرك يا صديقي أني لست بخير دون أن أكون صريحة إلى هذا الحد؟
كل المنغصات التي كسرت قلبي كنتُ المسؤولة عنها، ولأني أحسن الظن دائما بالعابرين كنتُ ضحية مواقفي البطولية.
كل شيء أعيشه يبدو مألوفا كما لو أني عشته آلاف المرات، تبدو الحياة مملة، مثيرة للضجر وللألم كل المواقف والقصص تُعاد بطرق مختلفة، كيف يرى المرء نفسه غريباً في حياة مألوفة؟
..
مرحلة التعب التي أدركها اليوم سببها قرار حافل بالجرأة، لطالما كنت جريئة مندفعة لا أخشى شيء لكن اليوم أقف عاجزة مُجهَدة يغمرني شعور الحيرة، كل هذا يدفعني إلى اللجوء لصمت عميق، مرّة أخرى يدفعني التفكير للغرق، حدّة الألم هنا في صدري بحجم صرخة الغريق الذي خانته كل الأيادي.
الأمر بات يتخطى حدود ذاكرتي يتخطى غضبي وطوابير أدبي، يسحبني نحو استحالة تقيد أصابعي، صخب عارم يضرم مشاعري وحنين يعبث بمنتهى ألمي وبراءتي.
تمرّ الأشياء أمامي بلا مبالتها المعتادة وكأنّها ليست قلقة بشأن مصيري الذي يقف هناك عند نهاية كل مشهد وكأنّ الزمن يعيد تكرار غصتي في كل قصة أعيشها،
يرسم هزائمي، يمزق صوتي ويبعثّر مواعيدي مع الفرح، أشياء أتحملها قسراً، ولأني امرأة كثيرة يطاردها الليل والأرق لكنها اعتادت أن تتنكر بأنها امرأة عادية.
وكأن خيبتي الأولى لم تكن كافية لجعلي أبدو كناجية من حرب طاحنة، أنها الضربات المتتالية التي تواصل الانتقال بين أيامي كنت سأنجو هذه المرّة لو لم تتعثر في دربي مجددا!
لا أريدك أن تقف أمامي وتعرقل رجفة قلبي، ليس من اللائق أن أكترث لك كأنّ شيئا لم يحدث!
لقد كنت دائما العائد من سفر الأمسيات من سحر القصائد والأغنيات، كنتَ العائد من قطار الحبّ وهشاشة الأمنيات
أجل، لقد حدث الكثير!
لا أرغب في رؤية نفس المشهد يتكرر فقد كنت خطيئتي الكبرى، هناك أشياء يجب ألا تعود حتى وإن كنا نتوق لعودتها حتى وإن وقفنا في طريق الغياب ننتظرها دهرا
أعلم أن هناك موت طويل ينتظرني حين أكون معك، عد من حيث تركتني وسكبت ملامحي في أشياء لا تشبهني،
عد إلى تلك الأيام حين أوقفتني عن قول كلمات ظلت عالقة في جبّ الصمت، حين كسرت حديثي وتركته معلقا خلف أمس شاحب
ذات المشهد الحزين يقتات على دخان قلبي، صار من الواضح أن أغير وجهتي وأسير في دروب تسع وجعي، أن أتوغل داخل فوانيس الموسيقى وأكتب قصائد تخيط جراحي،
أن أبتكر لغة جديدة وأصنع من غصتي شرارة تكفي لإشعال الأفكار العنيدة التي تتمايل داخل رأسي، أن أمدد مواعيدي لأمسيات ديسمبر الباردة علني أحظى بأجنحة وأحلق نحو السماء
تؤلمني الحياة حين تشدّ قبضتها على تعبي، حين تستوقف
أشيائي البسيطة وتمنعها من العبور إليّ، يؤلمني أكثر عندما أتراجع عنها زاعمةً أني لم أعد أرغب بها، حتماً أمتلك أطيافا عابرة أحدثها عن رجل ملبّد بالغياب ارتكب في قلبي جرائم عظيمة، رجل فاقع العناد يسحبني صوب مزاريب الهوى ثم يحظى بفرصة التحذيق بي ويلومني لأنني جميلة، أنيقة وعدوانية، وأنه مضطر لكشف أوراقه أمامي
وفي لحظة ينخطف وجهه معترفاً
كم أنتِ شهيّة للغرق يا امرأة تسامر الفرحة في حنايا الأمسيات وتزاحم بنضجها كل النساء!
امرأة كتبت على ضفاف الليلكِ موعدنا
امرأة تحسم رحلتها الأخيرة صوبي، وتداهمني كلما أتى الليل حاملا فصلا كاملا من الرغبات، فكرها فتنة،
تحاصرني بنظراتها المهذبة حتى لا أُطبِق على غيرها، گأنها سحر يُنهك ضوء الصباح، مليحة تسافر بي نحو السماء
امرأة تتقن فن التباهي والإدعاء، لطيفة مغرورة تستبيح جميع من حولها فقط لأنها تدير ظهرها للحب
عشوائية الشامات، متمددة في جسد الحكايات
أم السنابل سيدة النكد والعصبية
أعجمية الهوى أيلولية القطِاف
تقتني معطفاً جيّدا للغياب ثم تحجز تذكرةً لفصل الشتاء، تودّعني في مشهد بالغ الأسى ثم تقول لا تنسى مظلتك فالجو بارد والرياح هناك تجيد مداعبة الغيوم المثقلة بالأمطار،
تبا لها إنها تستمر في خداعي لا أعلم إن گان هذا حبّا أو اهتماما أو مجرد اعتياد
حاولت أن أصنع لها أسبابا لتبقى لكن سرعان ما
تغادرني ثم تعود أدراجها لتنال مني بالقصائد والشعر والأغنيات، تثيرني حين تعلن عليّ الحرب بضحكتها
تردد واثقة أتظن أنك ستنجو؟
تربت على قلبي بكُليمات أستلطفها، صوتها مثل صندوق الموسيقى حين ينبعث من صباحات ديسمبر، مثل الحرية التي تركض مع قلبك حين تعيدك الذكرى إلى نسيان مبعثر، تعيدني إلى وقت مضى كنت فاحش الغياب
تنتابني رغبة في مجافاتها لكنها لئيمة سرعان ما تصرخ بوجهي،
أهكذا تعبئ رصيد مشاعرك المفقودة في سراديب خُلدي!
كيف أحدثكم عنها وهي تمتلك لغة واسعة الحيلة؟
ويلااه كأنها تجيد العبث بالرصاص؟
تهرول نحوي مبتسمة، تعجبني حين تتملقها الحيرة كيف تقتلني؟
هي لا تعلم أنّ اتساع عينيها يعيد ترتيب ملامحي وغمازتها المعطوبة تشعل الحرائق في صدري
رباه ..! كأنها توزع الموت بسخاء
هند بومديان