لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المَوْلى جلّ وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المُهمة الجليلة، رجال تغلّغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم همّة ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا خدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المُسلمين المُضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضات الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام على متاع الحياة الدنيا، ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل : “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه…. فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ….”
الحلقة السادسة
عبد الكريم الخطابي.. بطل معركة أنوال
المعركة التي تسببت في إنهاء الملكية في إسبانيا
محمد عبد الكريم الخطابي
والملك ألفونسو الثالث عشر
خرج مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 بوضع المغرب تحت الحماية الأجنبية، والذي كرّس ذلك في العام 1912، فاستهدفت إسبانيا شماله وجنوبه، بينما تركزت فرنسا على وسطه، أما طنجة فكانت قد اعتبرت منطقة دولية، كل ذلك في الوقت الذي كان فيه المغرب يعاني من حالة التشرذم والانقسام اللذين همّا العائلة المالكة وصراعاتها الداخلية بغية السيطرة على الحكم، وفي هذه المواقف تداعت إسبانيا وفرنسا على بلاد المَغرب العربي وذلك للقضاء على الإسلام والخلافة الإسلامية واستغلال ثروات البلاد، وظنّت فرنسا كما ظنت إسبانيا أنها لن تجد مقاومة من قِبَل المغاربة، ولكن العقيدة التي اعتنقها أهل المغرب والتي غرست في قلوبهم معنى الحرّية والإباء والكرامة، حرّكت هممهم لمقاومة المُحتل الغاصب، وتزعم هذه المقاومة الأمير محمد عبد الكريم الخطابي الذي لم يرقه رؤية بلاده ترسخ في قيد الاحتلال بدون مقاومة وعزم على قيادة الثورة في سبيل إخراج المُحتل والدفاع عن الخلافة الإسلامية العثمانية.
توحيد قبائل الريف
كان لذلك القرار أثر بالغ في نفوس الشعب المغربي الذي بدأ حملات الجهاد والمقاومة خاصة في منطقة الشمال التي بدأت ضد المحتل الاسباني (أثناء تغلغله في منطقة الريف / الشرق) بقيادة “محمد الشريف أمزيان” بداية العام 1906 حتى 1912) تلك الحملة التي كانت منصبة بالأساس على عرقلة تغلغل الإسبان في “ازغنغان” بعد مده للسكة الحديدية لاستغلال مناجم الحديد في “أفرا” و”جبل اكسان” مكبّدا الإسبان خسائر مادية وبشرية هائلة إلى جانب قضائه على ثورة الجيلالي الزرهوني الذي يلقب “ببو حمارة أو الروكي”. لكن بعد موت الشريف أمزيان في الخامس عشر من مايو 1912 واصلت أسرة عبد الكريم الخطابي النضال المستميت ضد التكالب الاستعماري (الإسباني والفرنسي) التي أضحى يقودها الثائر الجديد محمد عبد الكريم الخطابي (ولد محمد بن عبد الكريم الخطابي ببلدة أجدير بالريف المغربي في العام 1882، وتتلمذ على يد والده وحفظ القرآن قبل أن يتم دراسته بمدرسة “الصفارين والشراطين” بمدينة فاس التي سرعان ما عاد إليها) الذي أثارته الحمية في مقارعة المحتل الإسباني بعد أن لملم صفوف الجهاد ودعوة أبناء الريف للقتال المسلح ضد الإسبان التي احتلت الحسيمة بعد احتلالها للناضور وتطوان، مُؤسساً بذلك إمارة جهادية على أحكام الشريعة وأنظمة الإدارة الحديثة ليقود مسيرة الجهاد المسلح ضد الإسبان بعد أن اتخذه أهل الريف بطلا جماهيرياً لقيادة الثورة الشعبية والدفاع عن أرضهم وأعراضهم باسم الجهاد والحق المبين.
ثورة الريف
سرعان ما بدأت المناوشات المسلحة بين مقاومي عبد الكريم الخطابي (بعد أن وحّد صفوف قبائل الشمال المغربي مجتمعة ابتداء بقبيلته “بني ورياغل” وقبلية “آيت تمسمان” و”آيت توزين” و”ابقوين”) وقوات الاحتلال الإسبانية التي سرعان ما أعدت له يوم 21 من يوليو 1921 جيشا جرارا (25 ألف جندي) للقضاء على مقاومته وأفراد جيشه (1500) بعد أن أضحى يشكل تهديدا مباشرا لمصالحها، لتندلع الحرب لمدة خمسة عشر يوما والتي انتهت بانتحار “سلفستري” (القائد العام للجيوش الغازية) ومقتل الكولونيل “موراليس” الذي أرسل عبد الكريم الخطابي بجثته إلى مليلية بعد أن ألحق بفلول الجيش الإسباني عدة هزائم في عدة مواقع ومناطق (دريوش، جبل العروي، سلوان)، مجبرا إياه على الفرار لعقر داره مليلية التي رفض عبد الكريم الخطابي احتلالها نظرا لأسوارها المحصنة ولاعتبارات سياسية وعسكرية …، وفي هذا يقول “أزرقان” مساعد عبد الكريم الخطابي الشخصي: “…نحن الريفيين لم يكن غرضنا التشويش على المخزن من أول الأمر ولا الخوض في الفتن كيفما كانت، ولكن قصدنا الأهم كان هو الدفاع عن وطننا العزيز الذي كان أسلافنا مدافعين عنه واقتفينا أثرهم في ردّ الهجمات العدوانية التي قام بها الإسبان منذ زمان، وكنا نكتفي بالدفاع والهجوم عليه فيما احتله من البلدان مثل مليلية التي كان في طوقنا أخذها بما فيها من غير مكابدة ضحايا جهادية، لكننا لم نفعل ذلك لما كنا نراه في ذلك من وخامة العاقبة فإنه ليس عندنا جند نظامي يقف عند الحدود التي يراعيها….”.
لا إمارة ولا جمهورية
ويعترف عبد الكريم الخطابي في مذكراته (مع شعور بالأسف) عن عدم استرجاعه مليلية قائلا: “…على إثر معركة جبل العروي وصلنا أسوار مليلية وتوقفنا وكان جهازي العسكري ما يزال في طور النشأة، فكان لا بد من السير بحكمة خاصة وأنني علمت بأن الحكومة الإسبانية وجهت نداء عاليا إلى مجموع البلاد كي تستعد لتوجه إلى المغرب كل ما لديها من إمدادات، فاهتممت أنا من جهتي بمضاعفة قواي وإعادة تنظيمها، فوجهت نداء إلى كل سكان الريف الغربي وألححت على جنودي وعلى الكتائب الجديدة الواردة مؤخرا بكل قوة على أن لا يسفكوا بالأسرى ولا يسيئوا معاملتهم، ولكنني أوصيتهم في نفس الوقت وبنفس التأكيد على أن لا يحتلوا مليلية اجتناباً لإثارة تعقيدات دولية، وأنا نادم على ذلك بمرارة وكانت هذه غلطتي الكبرى…”، وكان الأمير عبد الكريم الخطابي (رغم أسفه على عدم تحرير مليلية) قد احتسى كأس النصر بهذه البطولة التاريخية التي حققها على المحتل الإسباني، مُقيماً (حسب الروايات) جمهورية الريف داعيا إلى الاعتراف الدولي بها، وانطلق يهتف في جموع الريفيين قائلا: أنا لا أريد أن أكون أميرًا ولا حاكمًا وإنما أريد أن أكون حرا في بلد حر ولا أطيق من يسلب حريتي أو كرامتي..، لا أريدها سلطنة ولا إمارة ولا جمهورية ولا محمية، وإنما أريدها عدالة اجتماعية ونظامًا عادلاً يستمد روحه من تراثنا، وختم قوله مُتوجها بالقول إلى قادة الاحتلال الإسباني بالقول: “… افعلوا بي ما تشاؤون من اليوم، فأنتم ظالمون على كل حال ولا تنتظروا مني شيئًا غير المقاومة وقيادة الثورة حتى التحرير الكامل لأرضنا المُغتصبة”.
المنفى الأخير
لمّا اشتدت وطأة الأمير عبد الكريم على الإسبان بعد الهزيمة التي ألحقها بهم في غشت من عام 1924م، لم يسع الديكتاتور الإسباني “بريمو دي ريفيرا” إلا أن يتولى القيادة العسكرية بنفسه ليعمل على إنقاذ جيشه، وتفاوض مع الفرنسيين لكي يقوموا بنجدته، وأثمرت مفاوضاته معهم، فاتفقت القوتان الفرنسية والإسبانية على محاربة عبد الكريم الخطابي بعد أن رأوا استفحال شوكته وبدا يهدد المصالح المشتركة ويقض مضاجع المُحتل، وبدأ التكالب بين إسبانيا وفرنسا ضد القائد الريفي الكبير وابتدأ الهجوم معه تحت ستار صد الهجوم المُفتعل والقضاء على ثورته (كان الهجوم على ثلاثة مستويات براً وبحراً وجواً) حتى تم حصار قوات الخطابي وإلقاء القبض عليه يوم العاشر من أكتوبر من العام 1926 ونفيه فيما بعد إلى جزيرة (لارينيون) في المحيط الهندي (بعد ضغوطات الحكومة الإسبانية لتسليمه إليها)، لكنه وأثناء عملية نقله تمكن الخطابي من الفرار لحظة مروره بقناة السويس ليبقى بمصر حتى وفاته بالقاهرة عام 1963 (رغم حصول المغرب على الاستقلال) وأقام له الراحل جمال عبد الناصر جنازة مهيبة وفخمة ليوارى الثرى بأرض الكنانة بالرغم من الدعوات المُتتالية لنقل جثمانه إلى الأرض التي حارب وناضل من أجلها حتى آخر رمق ودافع عن الحضارة الإسلامية في وجه الاستعمار الإسباني.