الفلاسفة والحب -الحلقة 16-

لم يحاول أحد مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب لدرجة أن المرء قد يكتشف مزيدا من العمق في الحديث عن الحب في الأغاني الشعبية عنه عند المفكرين المعاصرين. إذ ثمة فكرة سائدة بأن الفلسفة والحب لا يجتمعان ويقطن كل منهما في غرفة منفردة، منذ العصور الحديثة على الأقل.
فمع كون الحب الظرف القدري للسعادة عند غالبية البشر، والعنصر الدائم لكل أشكال الدراما الأدبية، إلا أن الفلاسفة قد أثاروه بتحفظ يشبه من يدخل إلى قفص الأسد ويخشى أن يؤكل حياً.
فقد نفهم أن الفلاسفة يطالعون تلك العاطفة الغريبة بكثير من التعقل لأنهم مشغولون بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية العقلية، فيما يؤدي الحب بالإنسان إلى الموت كمدا.
هناك العديد من أنواع الحب، نزوة الأيام المعدودة، الاستلاب المقيد، الفتور المستمر، الجموح الخاطف، الاعتياد البارد.. ولم يفلت الفلاسفة من كل تلك الأنواع.
قضية هذا الكتاب لماري لمونييه واود لانسولان ترجمة دينا مندور، محاولة للنظر في هذه النقطة بعدالة، على طريقتهم المرتبكة أو المختالة، واللاذعة في معظم الأحيان، بل والعدائية الشرسة التي انتهجها بعضهم، والحديث عن كل ذلك بلهجة حاسمة فجميعهم في الحقيقة لديهم ما يقولونه لنا عن الحب، وعما يصاحبه من وهم وخلود، وما يولده من معاناة، وعن الطريقة التي نطمح بها لترويضه.

الشهوة لا تستمر أما الصداقة فعلى العكس تغمرنا بحرارة دائمة ومعتدلة

وصف مونتاني علاقته بإتيان في الفصل المحوري المعنون «عن الصداقة (127) بأنه تحت تأثير نمط من الافتتان والدراما العاطفية أصابته صاعقة الحب أثناء حفل أقامه برلمان مدينة بوردو: «وفق بعض تعليمات من السماء»، «لا أعرف أي قوة غير مفهومة وقدرية». إنها «صلة إلهية»: «كان يعرفني أكثر من أي شخص آخر»، «حتى أعمق نقطة في دواخلي. وفي النهاية اختفى إتيان، فقد اختار أن يكون مع ميشيل وليس مع زوجته حيث توفي إثر نوبة إسهال حادة وهو في الثانية والثلاثين من عمره، وتركه مدمَّراً، كشخص بتر نصفه، ملقى «في عتمة الليل الخانقة» لحياة الوحدة. لقد أحبَّه بالتأكيد حباً لا يوصف، حبا لا يفسره سوى سبب مبهم «لأنه كان هو ولأنني كنت أنا».
انطلاقاً من الأربع سنوات القصيرة جداً والأساسية جداً، شكّل ميشيل أفكاره العظمى حول العلاقة بالآخر. وعبّر عن ذلك في كتاب المقالات، والذي ربما لم يكن ليظهر إلى النور من دون هذه الحوادث التراجيدية، والذي رمز«القبر» الحقيقي للابواتي، وفقاً لتعبير ميشيل لقاءه بوتور.
في ذلك الكتاب يستعيد مونتاني «الصديق الأرق والأعزّ والأكثر حميميّة» الذي كان بمثابة «الحبيب القربان» لمكتبته. «استمتع جوي وحده بصورتي الحقيقية، وحملها. لذلك أفك شفرة ذاتي بتعجب».
أشار جان ستاروبينسكي إلى أن هذا الحداد على روح إتيان والذي «استمر إلى الأبد» سيكون بلا شك هو الشيء الوحيد المستمر في حياة تميّزت بالتقطعات والأحداث الموقتة. حيث خصها مونتاني بالأولوية الاستثنائية للمحبة، قبل علاقاته الحسية مع النساء.
صحيح أن صاعقة الحب أكثر نشاطاً، ولذعا، وعنفاً»، إلا أنها «متهوّرة وطائشة» و«أمر يمكن تجاوزه وإنهاؤه». والشهوة التي لا تستمر لا نتذكرها إلا قليلاً. أما الصداقة، فعلى العكس، تغمرنا بحرارة دائمة ومعتدلة. فهي متينة ويمكن الوثوق بها. سامية من جميع جوانبها. وتصون طريقها بمسير رائع وشامخ، ناظرة حولها في خيلاء». أما الرغبة العاطفية فتمرّر أطرافها أسفل منها بكثير». ليست خاضعة لقوانين الدم، ولا تلتفت لأي نهايات إلا ذاتها كما يلتفت الزواج نحو الإنجاب، فالصداقة الحقة اختيار، إعجاب وإثراء متبادلين. وهي تحقق الوحدة التامة بين الارتباط والحرية.
لكن هل تستطيع النساء حقاً إقامة هذا النوع من العلاقات العميقة؟ أعداء المرأة يشكون في الأمر ! بحجة أن «أرواحهن لا تبدو ثابتة بالقدر الكافي لتدعيم عناق العقدة الوثيقة والدائمة». إلا أن مونتاني تفضّل وقال إنه إذا كانت الصداقة السامية مع الجنس الضعيف ممكنة، فإن هذا النمط من العلاقة يكون فيه الإنسان مرتبطاً بكامل كيانه، وتتحد خلاله الأرواح والأجساد، يعد مثالاً للكمال الإنساني. وهنا يُقبل إيروس الحب فيليا آلهة الصداقة عند القدماء. ولكنه استطرد سريعاً قائلاً: «هذا الجنس منعدم المثال لا يمكن أن يحدث».
ما من حب داخل القفص
إن محاولة التوفيق بين الحب والصداقة والرغبة من خلال الزواج لهي يوتوبيا معاصرة تسْخَرُ من هذه الشكوك. وافق مونتاني، رغم كل شيء، على قبول هذه المؤسسة التي تخلو من الحرية إلا في خطوتها الأولى فقط، حيث «الدخول الحر»، وذلك بعد عامين من طيشه العنيف إثر فقدانه لإتيان فتزوّج وهو في الثالثة والثلاثين من العمر، في سبتمبر من فرانسواز دولا، شاساني، التي تصغره بأحد عشر عاماً، والتي سيصبح والدها لاحقاً رئيساً لبرلمان مدينة بوردو. وبالتأكيد ذلك للابتزاز الأبوي – لا زواج ولا ميراث – أكثر من الميل الشخصي. ألم يقل إنه كان مدفوعاً بمناسبات غريبة ولو كان الأمر يتوقف عليه وحده لفرّ من زواج الحكمة نفسها؟ الأمزجة العربيدة كما هو الحال عندي أنا الذي أكره كل ارتباط وإجبار ليست خاصة. و« لكن يمكننا القول أن العادة وآداب السلوك في الحياة المشتركة تجرفنا في تيارها». مونتاني مرة أخرى موزع بين رغبته الأصيلة في الحرية ونزعته المحافظة العائلية.
الحب من جهة، والزواج من جهة أخرى. وكي يعزّز من ثبات كلا الطرفين، سوف يؤكد الفصل التام بينهما فالعشيقات في المدينة، والزوجة في القصر. والخلط بين القطبين هو الخطيئة بعينها؛ إذ نخاطر في هذه الحالة بإفساد الاثنين. وهنا نتذكر خطأ جوبيتر حين تزوج المرأة التي عاشرها كحبيبة قبل أن يضيف تعبيره الدقيق جداً: «الأمر يشبه أن نأخذ ملفاً ملقى في سلة المهملات لنحمله بعد ذلك فوق رؤوسنا».

>إعداد: سعيد ايت اومزيد

Top