لم يحاول أحد مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب لدرجة أن المرء قد يكتشف مزيدا من العمق في الحديث عن الحب في الأغاني الشعبية عنه عند المفكرين المعاصرين. إذ ثمة فكرة سائدة بأن الفلسفة والحب لا يجتمعان ويقطن كل منهما في غرفة منفردة، منذ العصور الحديثة على الأقل.
فمع كون الحب الظرف القدري للسعادة عند غالبية البشر، والعنصر الدائم لكل أشكال الدراما الأدبية، إلا أن الفلاسفة قد أثاروه بتحفظ يشبه من يدخل إلى قفص الأسد ويخشى أن يؤكل حياً.
فقد نفهم أن الفلاسفة يطالعون تلك العاطفة الغريبة بكثير من التعقل لأنهم مشغولون بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية العقلية، فيما يؤدي الحب بالإنسان إلى الموت كمدا.
هناك العديد من أنواع الحب، نزوة الأيام المعدودة، الاستلاب المقيد، الفتور المستمر، الجموح الخاطف، الاعتياد البارد.. ولم يفلت الفلاسفة من كل تلك الأنواع.
قضية هذا الكتاب لماري لمونييه واود لانسولان ترجمة دينا مندور، محاولة للنظر في هذه النقطة بعدالة، على طريقتهم المرتبكة أو المختالة، واللاذعة في معظم الأحيان، بل والعدائية الشرسة التي انتهجها بعضهم، والحديث عن كل ذلك بلهجة حاسمة فجميعهم في الحقيقة لديهم ما يقولونه لنا عن الحب، وعما يصاحبه من وهم وخلود، وما يولده من معاناة، وعن الطريقة التي نطمح بها لترويضه.
هناك قيد مزدوج يجمع بين قوانين الزواج والحب يجعلنا عبيداً للآخر
هناك قيد مزدوج يجمع بين النمطين، أحدهما يتعلق بقوانين الزواج، والآخر بالحب الذي يجعلنا «عبيداً للآخر». وتكمن السمة الوحيدة المشتركة بينهما في هذا الاستلاب، والذي يُعد في نظر مونتاني النقيصة الكبرى. وأصبح جلياً أنه ما من مجال ليجد المرء السعادة في الارتباط الزوجي. لنتذكر عبارة يوريبيد : «لن أقول أبداً إن الزواج يحمل من البهجة أكثر مما يحمل من الدموع». وهي العبارة التي وجدت محفورة على قوس مزخرف بالغرفة التي كان يعمل بها مونتاني. مرة واحدة فقط كان ملتزماً بهذا العقد، فكان الأوان قد فات لإعلان «العصيان». فالمرء لا بد وأن يحترم قَسَمه ، أو على الأقل يبذل قصارى جهده ليفعل على الرغم من أن مونتاني كان حصيفاً للغاية في ما يتعلق بالارتباط، فهو لم يجد غضاضة في الإعلان عن «أنه كان يتأمل بتحفّز بالغ قانون الزواج حتى إنه لم يجد فيه «وعداً أو أملاً».
حين ترك مهامه في البرلمان ليتفرغ للكتابة وسط آلهات الإلهام. انتقل ميشيل بحصنه إلى برج على زاوية عند أطراف الحقول، لا تزيد مساحته على خمسين متراً مربعاً أي ما يوازي جزءاً من غرفة في القصر الذي تقطنه زوجته فرانسواز فانتقل من إقطاعي يملك الضيع إلى ساكن الحجرتين ومطبخ بينما ظلت مكتبته عند فرانسواز والحجرة التي ينام فيها متيبساً ووحيداً، على الطريقة الملكية» مثل ديوجين في برميله. وهكذا قضى مونتاني عشرين عاماً منغلقاً في قوقعته، لا يكسر هذا الانغلاق سوى أسفاره المتعددة. حيث مهامه الدبلوماسية ورحلته إلى إيطاليا التي استمرت سبعة عشر شهراً من دون امرأته أو طفلته! وبفضل هذه الشهور استطاع الفرار من السجن الزواجي. وقد دوّن في يوميات رحلته كنت أنام وأدرس وقتما أشاء، وحين يأخذني الهوى لأخرج كنت أجد الصحبة متاحة في كل مكان من النساء والرجال الذين أستطيع الحديث معهم. كان يجلس متفاخراً مالكاً العالم من دون أن يتلطخ بنطاله بالوحل كفسحة الشباب الروماني والفلورنسي. فهو ببساطة سعيد وحر. وفي نهاية الأمر، تجرأ أن يقول: «بزواجنا لم ننجح في أن نبقى أحدنا بجانب الآخر».
ربما تزوجت فرانسواز ذئباً مشتعلاً إلا أن سريرها ظل بارداً طوال الوقت. يبدو أن مونتاني لم يكن يزور زوجته إلا نادراً. ويؤكد صديقهما فلوريم ودوريمو أنه لم يرهما معا أبداً، ومع هذا يُقال عنها إنها كانت «جميلة بما يكفي» وخليعة بعض الشيء.
أنجبت له ست بنات متن جميعاً صغيرات. فالجنس، فيما عدا من أجل الإنجاب، لا يبدو أنه كان جزءاً من الأعمال المشتركة التي تندرج في سياق الزواج. وبالأحرى كان يرى فيه مونتاني أمراً غير لائق يشبه زنى المحارم.
هل هيا القصة القديمة المتعلقة بالأم والعاهرة؟ ففي هذا السياق الزواجي العاقل «الرغبات لا تتقد» بل تتلاشى مثل الرغوة.
ولكن لا ننسى أن «الزواج الجيد» إذا تحقق، هو مساحة رقيقة للحياة تتسم بالانتظام والثقة وبعدد لا نهائي من الطقوس المفيدة والراسخة والالتزامات المشتركة، لا توجد امرأة ذاقت طعم ذلك وتريد أن تحل محل عشيقة زوجها.
الحب قائم على نار المتعة أما الزواج فيقوم على «الفائدة والعدل والشرف، والديمومة » صحيح أنه متعة سهلة، لكن متفق عليها أكثر من غيرها.
نساء ورجال الصراع ذاته
ولكن أهم ما يميز مونتاني هو قبوله التام والصريح لحقيقة الرغبة النسائية.
حتى وإن لامَسْنا العنف في الرغبة النسائية، فذلك لكي نصل للمساواة في طبيعتها طبيعة رغبة الرجل.
وفي حال كانت النساء مفتونات بفضائح نضوجهنَّ السافرة فهن يطالبهن مونتاني بتبرير «الفجور» الذي يتشاركن فيه مع الرجال «بالتنوع والتجديد». بل إن مونتاني أصبح نَسَوياً حين أكد أن من حقهن رفض القواعد التي تُفرض عليهن، لأن هذه القوانين وضعت من دونهن ومن دون موافقتهنَّ، إنما وضعها الرجال. بل كان متعاطفاً معهنَّ أيضاً حين دفع بهنّ إلى أحضان العشيق العابر ، واكتفى بنصحهنَّ بالكتمان والتواضع في الكتاب الثالث.
الغلطة نفسها لا تهم طالما اهتممنا بمظهرها ولها طرق تدبير عند «من لا ترغب في إعفاء ضميرها من ثقل ما، بينما ترغب في إعفاء اسمها من هذا الثقل». وبماذا سيرد على التوبيخ ؟. « كل منكن مدللة بداخلها». هذا الأمر منتشر للغاية حتى إنه لن يضير غَض الطرف عنه إذا ما استقصينا وراء شريك حياتنا.
>إعداد: سعيد ايت اومزيد