مشاهد من موسكو.. معالم وتاريخ عريق -الحلقة 1-

على الرغم من قساوة الطقس بها والبرد الذي ينطلق مع بداية أكتوبر، إلا أن روسيا الفيدرالية بمدنها المختلفة وخصوصا عاصمتها موسكو، تظل حية لا تهدأ، عبق من التاريخ ومتاحف شيدت لتظل شاهدة على غنى تاريخي متنوع.
خلال رحلة سابقة لـ “بيان اليوم” لعاصمة روسيا في إطار تكوين خاص بالصحفيين من شمال إفريقيا والشرق الأوسط نظمته وكالة الأنباء الروسية “سبوتنيك” بشراكة مع البيت الروسي “روسوترودنيتشيفو الفيدرالية Rossotrudnichestvo” التابعة لوزارة الخارجية الروسية وشركاء آخرين، امتد من آواخر شهر شتنبر إلى أكتوبر الماضي، توقفت الجريدة، عند أبرز معالم الكرملين وإحدى أهم المنشئات الفيدرالية الروسية التي تحمل تاريخا عالميا هاما.
وإلى جانب موسكو، مدينة سان بطرسبرغ كانت هي الأخرى ضمن جولة “بيان اليوم” إلى روسيا، حيث نقوم من خلال هذه السلسلة من الحلقات بإعادة تركيب مشاهد المدينتين التاريخيتين اللتين ظلتا شاهدتين على أحداث وطبعتا مسار التاريخ، ليس تاريخ روسيا وحدها فحسب، بل تاريخ العالم..

سانت بطرسبرغ.. متحف العالم المفتوح

في آخر شتنبر الماضي، ومع بداية نهاية الأجواء الصيفية، حلت “بيان اليوم” بموسكو عبر رحلة من مطار الدارالبيضاء نحو تركيا، ثم نحو موسكو، وبعد ترتيب بعض الأمور هناك بالعاصمة الروسية، كانت الوجهة صوب شمال غرب روسيا الاتحادية على ضفاف الخليج الفنلندي، بالضبط بمدينة المتاحف بامتياز “سانت بطرسبرغ”.
سانت بطرسبرغ، والتي عرفت سابقا باسم لينينغراد وباسم بيتروغراد، هي إحدى المدن الساحرة التي تقع على دلتا نهر نيفا، شرق خليج فنلندا على بحر البلطيق، والتي تعد ثاني أكبر مدن روسيا، فضلا عن كونها عاصمة سابقة لروسيا القيصرية لأكثر من مئتي عام.
كانت السفر من موسكو نحو هذه المدينة ممتعا، عبر القطار السريع الذي يمر عبر عديد من القرى الروسية التي لها جمال خاص، مساحات خضراء ساعة وغابات وحقول عبر الطريق، وما يزيد من بهاء هذا المنظر الطبيعي الخلاب شكل المعمار القروي لروسيا الذي يحتفظ بالبيوت الخشبية بالقرمود المقاوم للثلوج وبالألوان الزاهية المختلفة لكل بيت.
ولعل ما ترك انطباعا منذ الوهلة الأولى لوصولنا إلى موسكو هو طريقة المعمار وألوان البيوت المختلفة والتي لها طابع خاص ومميز يريح العين، ويعطي صورة بصرية جميلة عن الأمكنة، وهو ما يشرحه مرشدنا الروسي خلال السفر، والذي يوضح أن اعتماد هذه الألوان الزاهية يأتي أولا للتاريخ الغني لروسيا في الفن التشكيلي ولحب الشعب الروسي لهذا الفن ثم لمواجهة تبلد الجو وطول أيام الشتاء والثلوج إذ تشكل الألوان الواهية للأبينة انكسار للبياض الممتد للثلوج، وتعطي صورة بصرية متميزة تجمع بين البياض الناصع للثلوج وبين الألوان المختلفة للأبنية والأمكنة والقصور والمتاحف المختلفة والتي معا لوحة متميزة تعوض عن الشمس التي تغيب كثيرا عن سماء مدن روسيا.
بعد أربع ساعات من السفر الممتع بين موسكو وسانت بطرسبرغ، وصلنا إلى وجهتنان كانت محطة القطار بطراز معماري فريد، بخدمات تقنية متميزة يزيدها الجمال المعماري الذي يشكل تاريخا متفردا للمعمار بهذه المدينة.
من خلال جولة عبر شوارع المدينة تكتشف أن سانت بطرسبرغ الروسية ليست مجرد مكان عابر، بل هي عرض فني مذهل للعمارة الرائعة التي تعكس تاريخا غنيا وثقافة متنوعة.
بين أروقة القصور الفخمة وجمال الكنائس الباروكية، تنحت العمارة في سانت بطرسبرغ لوحة فنية مدهشة تأسر القلوب وتلهم العقول، حيث تبرز القصور الإمبراطورية الضخمة كعلامات بارزة للقوة والأثر في المدينة. قصور تاريخية ومتاحف رائعة بمعمارها المتميز، يتصدرها قصر الشتاء القائم على ضفاف نهر نيفا بأسطحه الذهبية المتلألئة وفسيفسائه الراقية، التي تعكس أبهى مظاهر الفن الباروكي الروسي. ثم قصر بيترهوف، الذي يقع في منتزه ضخم يضم حدائق ذات تنسيق فني رائع، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الكنائس الرائعة التي تمتاز بطرازات معمارية متنوعة.
وتعد كاتدرائية سانت إيزاك المذهلة بمنظرها الخارجي الباروكي وقبتها الذهبية المتلألئة من أبرز المعالم الدينية في المدينة، بينما تأسر كاتدرائية مدينة سانت بطرسبرغ بأسلوبها النيوكلاسيكي الفريد وأبراجها الشامخة.
وجمال العمارة في سانت بطرسبرغ لا يقتصر فقط على المعالم الشهيرة، بل يتجلى أيضا في الشوارع الضيقة والساحات الساحرة والمباني الريفية الساحرة التي تعكس طابع الحياة الروسية التقليدية، بل أيضا، في مسار وادي نيفا والسفن والقوارب السياحية المارة به مع أصوات الموسيقى الهادئة في المساء.
من خلال الجولات بهذه المدينة، التي سنتحدث عن بعض متاحفها في الحلقات السابقة، يمكن القول أنها تشكل هي نفسها بمعمارها وأجوائها وفسيفسائها متحفا مفتوحا، وبتاريخها الغني والمآثر الموجودة بها الشاهدة على آلاف السنين، يمكن القول إن هذه المدينة باختصار، هي متحف العالم.
فسانت بطرسبرغ أو كما كانت تسمى سابقا لينينغراد تعتبر متحف العالم المفتوح على كل الجوانب، تاريخ غني راسخ في الشوارع وفي الاودية وفي القنوات المائية المارة عبر الشوارع والأزقة، والتي جميعها تعد شاهدا على عظمة الإمبراطورية الروسية وتنوع ثقافتها، وهي تجسيد للفن والتاريخ في أجمل صورهما، مما يجعلها واحدة من أجمل المدن في العالم لمحبي الجمال والتاريخ.

توفيق أمزيان

Top