” الأجل الاسترشادي” و”عدد القضايا لكل قاض” مواضيع تسائل ضمانات المحاكمة العادلة

يعيش الجسم القضائي في المغرب على وقع نقاش قانونيّ وحقوقيّ حول  الآجال الافتراضية للبت في القضايا داخل المحاكم، والتي وضعها المجلس الأعلى للسلطة القضائية  تنزيلا للإصلاحات التشريعية التي عرفتها منظومة القضاء.

ففي الوقت الذي تعتبر فيه الجهات الرسمية هذا الإجراء الجديد وسيلة لضمان صدور الأحكام القضائية ضمن أجل معقول، تُبدي جمعيّات القضاة والمحامين ومنظمات حقوقية مخاوفها، من إمكانية طغيان خطاب الإنتاجية على جودة الأحكام خاصة باستحضار تزايد عدد القضايا المعروضة على المحاكم والخصاص الموجود في عدد القضاة.

الإطار القانوني لتحديد آجال استرشادية للبت في القضايا

 بموجب تعديل قوانين السلطة القضائية، أصبحت المادة 45 من النظام الأساسي للقضاة تنص على أنه: “يحرص القاضي على البتّ في القضايا المعروضة عليه داخل أجل معقول، مع مراعاة الآجال المحددة بمقتضى نصوص خاصة.

يتولى المجلس تحديد آجال للبت في مختلف أنواع القضايا، في حالة عدم تحديدها بمقتضى نص قانوني.

تعتبر الآجال التي يحددها المجلس مجرد آجال استرشادية لتطبيق أحكام هذه المادة، ولا يترتب عنها أي أثر بالنسبة للدعوى”.

كما اعتبرت المادة 75 من قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية المعدل حرص “القضاة على إصدار الأحكام في أجل معقول معيارا من المعايير التي يعتمدها المجلس في ترقية القضاة”، وخوّلت المادة 108 من نفس القانون المجلس “مهمة تتبع أداء القضاة بالمحاكم، واتخاذ الإجراءات المناسبة لتحسينه وتأطيره من أجل الرفع من النجاعة القضائية، ولا سيما ما تعلق باحترام الآجال الاسترشادية للبت في القضايا”.

وتنزيلا لهذه المقتضيات أصدر المجلس الأعلى للسلطة القضائية مقررا بتحديد آجال استرشادية، لجميع القضايا المعروضة على المحاكم، وذلك اعتمادا على استخراج المعدلات الحقيقية لآجال البت حسب النظام المعلوماتي، وبعد استشارة وإشراك المسؤولين القضائيين.

ويحدد القرارالآجال الاسترشادية بالأيام للقضايا المدنية بمحاكم الاستئناف، حيث حددها في 30 يوما بالنسبة للقضايا المدنية الاستعجالية، وفي 90 يوما بالنسبة لمراجعة السومة الكرائية والأداء والإفراغ، كما حدد القرار الآجال في 300 يوم بالنسبة لقضايا العقار العادي والعقار المحفظ. أما بالنسبة للقضايا المدنية في المحاكم الابتدائية، فقد حدّد القرار الآجال الاسترشادية لمراجعة السومة الكرائية في 60 يوما، و180 يوما بالنسبة لقضايا الإفراغ وأداء واجبات الكراء والتطليق، وحدد الأجل بالنسبة للنفقة في 30 يوما.

وفيما يخص القضايا الزجرية في محاكم الاستئناف، فقد حدد القرار الآجال الاسترشادية، على سبيل المثال، بالنسبة للقضايا الجنحية الاستئنافية التلبسية في 21 يوما، و120 يوما بالنسبة للجنح التلبسية العادية، و90 يوما في حوادث السير، وبالمحاكم الابتدائية حدد القرار الآجال الاسترشادية في القضايا الجنحية العادية التأديبية في 180 يوما، ومن بينها قضايا العنف ضد النساء.

أما بخصوص القضايا التجارية في محاكم الاستئناف التجارية فقد حددها بالنسبة لقضايا إيقاف التنفيذ في 15 يوما، وفي 7 أيام لصعوبة التنفيذ، و15 يوما بالنسبة لصعوبة المقاولة. وعلى مستوى المحاكم التجارية، نصّ القرار ذاته على أجل 30 يوما بالنسبة للقضايا الاستعجالية واسترجاع السيارات، و150 يوما بالنسبة للعقود التجارية، و120 يوما بالنسبة لأكرية المحلات التجارية.

كما حدد القرار نفسه آجال البتّ في القضايا الإدارية بمحاكم الاستئناف الإدارية في 120 يوما بالنسبة للمسؤولية الإدارية، و10 أيام بالنسبة لغرفة المشورة وفحص الشرعية، و180 يوما لنزع الملكية و90 يوما لتحصيل ديون الخزينة. وضمن المحاكم الإدارية؛ حدد الأجل في 180 يوما بالنسبة للمسؤولية الإدارية والمنازعات الضريبية والمعاشات المدنية والعسكرية، ويوم واحد بالنسبة للأوامر المبنية على طلب.

والملاحظ من خلال هذه الآجال أنّها لم تراعِ مسألة توصّل الأطراف وخاصة المدّعى عليهم أمام مشاكل التبليغ والتي تبقى إحدى أبرز المشاكل التي تؤدي إلى بطء العدالة.

الآجال الافتراضية للبت في القضايا تستوجب تسقيف عدد القضايا لكل قاض

فور دخول قرار المجلس الأعلى للسلطة القضائية بتحديد آجال البت في القضايا وتكليف المسؤولين القضائيين بالسهر على تنفيذه عبر التطبيقات المعلوماتية، تزايدت مخاوف فعاليات حقوقية ومهنية من إمكانية مسه بضمانات المحاكمة العادلة والتي تستوجب تحقق مجموعة من الشروط الأخرى ومن بينها احترام حقوق الدفاع. وفي هذا الصدد، نبّه رئيس نادي قضاة المغرب عبد الرزاق الجباري، إلى ما يثيره تنزيل هذا القرار من صعوبات عملية بسبب  “قلّة عدد القضاة، وتحكم ثقافة الإنتاج حيث ينصرف الاهتمام إلى عدد الملفات الرائجة والمحكومة والمُخَلفة، وتلك التي أُخرجت من المداولة أو التأمل أو تمّ تمديد تاريخ النطق بالحكم فيها، فيصبح القاضي، مع هذا الوضع، مُنتجا للأحكام باعتبار عددها أكثر منه بمضمونها، مع أنه معرض للمساءلة من أجل خرق قانوني الموضوع والشكل عند تطبيقهما، الأمر الذي نكون معه أمام معادلة معقدة يصعب فك رموزها وشفراتها، وهي: مدى إمكانية الجمع بين هاجس إنتاج الأحكام وضرورة تحقيق جودتها بالتطبيق العادل للقانون بفرعيه؟”.

وأضاف رئيس نادي القضاة أن “الأرقام المعبر عنها من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بخصوص نشاط المحاكم، والتي بلغ بموجبها عدد القضايا المحكومة 3.800.000 قضية سنة 2021، وارتفع هذا العدد سنة 2022 الى 4.356.970 قضية، خير شاهد على تمكن فكرة الكم من اهتمامات مختلف الفاعلين في الإدارة القضائية، ناهيك عن المعايير التي تعتمد في تقييم أداء القضاة وتصنيف المحاكم إلى نموذجية وغيرها، حيث لا تخلو من مقاربة عددية تغيب عنها مؤشرات الكيف بالمرة”.

واستطرد قائلا : “إن أبرز ما يترتب عن هذا الوضع، هو ما بات يعيشه القضاة من ضغط في العمل نظرا لبتهم في عدد غير معقول من القضايا التي قد تصل إلى 80 أو 120 قضية كمعدل أسبوعي قد يزيد أو ينقص باختلاف الشعب والتخصصات، مما يستحيل معه، منطقا وواقعا، على القاضي تحرّي قيمة الجودة لفائدة فكرة الإنتاج.  وما يُقال عن قضاة الحكم في هذا الباب، يُقال، أيضا، عن قضاة النيابة العامة الذين يتولون معالجة مساطر عديدة يفوق معدّلها الأسبوعي المعدل المذكور الخاص بقضاة الحكم”.  وهو معدل “يفوق بشكل ملفت المعدل الدولي للقضايا التي يتعين على القضاة البت فيها، خصوصا قضاة الحكم، والذي لا يتعدّى 480 إلى 500 ملف في السنة، أي ما يقارب معدل 11 ملفا في الأسبوع، حيث ينصبّ الاهتمام على جودة العمل لا نسبته العددية”.

ومن هذا المنطلق، دعا رئيس نادي قضاة المغرب مختلف الفاعلين إلى التفكير فيما يمكن تسميّته بـ “العدد الاسترشادي للقضايا” المدرجة في جلسات الحكم، على أن يكون هذا العدد معقولا خاضعا لمؤشرات الجودة قبل الإنتاج، وهو ما سيخفف الضغط على القضاة وسيمكنهم من معالجة تلك القضايا وفق ما يقتضيه التطبيق السليم للإجراءات المسطرية المتعلقة بسير الدعاوى، وبضمان شروط المحاكمة العادلة.

انتفاضة المحامين ضدّ طغيان ثقافة الكم على الكيف

من جهتها، تعتبر الهيئات المهنية للمحامين أن موضوع الآجال الافتراضية للقضايا بالمحاكم يندرج ضمن جملة إصلاحات تشريعية وإجرائية تعرفها المنظومة القانونية المغربية في اتجاه تكريس ثقافة الكم على الكيف، والمسّ بحقوق الدفاع ومن آخرها ما تم الإعلان عنه في  مشروع قانون المسطرة المدنية. وفي هذا السياق يقول النقيب السابق عبد الرحيم الجامعي: “إن المتأمل لخطابات افتتاح السنة القضائية كل عام يكشف الحضور اللافت في خطابات المسؤولين القضائيين لهاجسيْ تصفية المخلف ورفع الإنتاجية، حيث تحولت الأرقام إلى مدافع توجه إلينا، والخوف من الأرقام يؤدي إلى الخوف من ممارسة الطعون، لذا اتّجه مشروع المسطرة المدنية إلى تقليص إمكانية ممارسة الطعن بالاستئناف أو النقض، وهو ما يفوّت على المتقاضين فرصة مراقبة هذه الأحكام أمام جهة الطعن لكونهم غير راضين عنها”.

في نفس السياق يقول المحامي بهيئة الدار البيضاء  عبد الكبير طبيح أنه: “بالرجوع الى الفصل 120 من الدستور الذي يتكلم على الأجل المعقول في إصدار الأحكام القضائية، يلاحظ أن المشرع الدستوري أورده ضمن  عنوان واضح وهو حقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة، مما يؤكد أن إرادة المشرع الدستوري كانت ترمي إلى حماية مصالح المتقاضين وليس الإسراع بإصدار الأحكام”.

ويضيف: “إن هذا الأجل المعقول مقرّر لمصلحة المتقاضي وليس لمصلحة تعدّد الأحكام -من خلال إصدار أحكام بعدم القبول وتقديم دعاوى جديدة-. وإن حق المتقاضي أن يرد على خصمه في كلّ ما يقدمه للمحكمة من مذكرات أو مرافعات وهو حقّ دستوري لا يملك لا القاضي ولا القانون أن يحرمه منه، وإلا سنكون في مخالفة واضحة لإرادة المشرع الدستوري”.

تغليب الكمّ على الكيف تكريس للتمسك بالشكل وتغييب الجوهر 

في نفس السياق ينتقد المحامي بهيئة مكناس والناشط الحقوقي  صبري الحو طغيان سياسة الإنتاجية داخل الجسم القضائي والذي أنتج بروز جيل جديد من القضاة يميلون إلى الطريق السهل في تصريف الملفات، من خلال الاجتهاد في الشكل من أجل دفع القضية وتجنب الفصل فيها، ما دامت فلسفة المؤسسة تتلخص في السرعة في الفصل وفي مراكمة عدد الأحكام، وتحطيم الأرقام من خلال ربط الترقية بالكم والعدد”.

ويضيف أنه: “بالرغم من تمسّك القضاة في حيثيّات أحكامهم بمقتضيات القانون لتبرير عدم قبول الدّعاوى من حيث الشكل بالنظر لكثرة الشكليات وعدم توحيد آجال ممارسة الطعون في القانون المغربي، فإن المحامين كجزء من أسرة العدالة يستندون في تعليقاتهم لهذه النتائج إلى كون القاضي إنما وجد من أجل الإنصاف وإقامة العدالة بين أطراف الدعاوى، ويعتبرون أن تصريف القضايا في إطار الشّكل عن طريق التّشدّد والمغالاة والاجتهاد أكثر من اللازم بالبحث في أسباب سقوط الدّعوى وعدم قبولها بمثابة ترك القضاة لوظيفتهم السامية في الفصل في جوهر وموضوع القضايا المعروضة عليهم. فالعبرة في النهاية ليست في عدد الأحكام الصادرة بل بمدى مساهمة وضلوع سلطة القضاء في إنهاء الخصومات والنزاعات في تغيير أوضاع تستحقّ ذلك التدخّل لتوفير الحماية والإنصاف”.

ويخلص للقول بأن “ذاكرة المجتمع ترفض سياسة العدد وتتشبث بوظيفة القاضي في إقامة العدل وتوفير الحماية”.

Top