لفضاء البحر بكل أبعاده حضور في الإنتاج الغنائي المغربي، وهذا أمر طبيعي جدا، بالنظر إلى أن بلدنا مطل على واجهتين بحريتين، بامتداد يتجاوز ثلاثة آلاف كيلومتر.
لكن علاقة المواطن المغربي عموما مع البحر، كانت دائما محدودة، ليس هناك ذلك التعلق الخاص والمتميز بهذا الفضاء الساحر، نادرون جدا أولئك الذين يمارسون الهوايات الخاصة به: الغوص، الصيد.. إلى آخره، لا يتم التفكير فيه سوى في أوقات الحر، في أوقات الصيف، ربما أن هذا راجع إلى كون المواطن المغربي لم يكتسب ثقافة الانفتاح على البحر، كما أن سياسة المدينة التي كانت متبعة منذ عدة عقود، لم تول الاهتمام بسواحل البحر؛ لجعلها جزءا لا يتجزأ من فضاء المدينة ككل، حيث يحصل ذلك الاندماج والتناغم بينهما.
جل السواحل مغلقة على المدن التي تطل عليها، جلها مسيج ومحجوب عن أنظار السكان، لنأخذ على سبيل المثال وسط مدينة الدار البيضاء، كان منفتحا على الميناء، غير أنه في ما بعد، تم تسويره وحرمان مرتادي هذا المركز من الاستمتاع بمنظر السفن وبواخر الصيد.. مع أن ذلك من شأنه أن يكون في خدمة التنمية الاقتصادية والسياحية للمدينة.
طبيعي جدا أن نجد حضور البحر في التجربة الغنائية بوجه عام، جد محدود، أخذا بعين الاعتبار أن المبدع يعبر عن ما يتفاعل معه، وعن ما يدعو إلى الاستلهام منه.
إن الإنتاجات الإبداعية والفنية الكبرى لم تأت من فراغ، بل هي نابعة من ظروف خاصة، لها ارتباط بالفضاء الذي نعيش فيه بشكل مشترك.
فضاء البحر لم توله الدولة العناية اللازمة لكي يكون جديرا بالعيش فيه، وبالتالي يكون ملهما لإنتاج أعمال عظيمة.
الفضاء العظيم هو الذي يخلق المبدع العظيم.
البحر جزء من فضائنا المشترك، غير أن السياسة المتبعة شاءت أن يكون هذا الفضاء محجوبا عن الأنظار.
إن استحضار هذا الفضاء البحري في المتن الغنائي المغربي، سواء الشعبي أو العصري أو غير ذلك، يظل ضئيلا، أخذا بعين الاعتبار التراكم الذي تحقق على امتداد عقود من زمن الأغنية المغربية.
هناك من المطربين الذين لم يؤدوا سوى أغنية واحدة حول البحر، بالرغم من رصيدهم الغنائي الغزير الذي يمتد لعدة عقود، كما قد نجد هناك من لم يؤد أي أغنية من هذا القبيل طيلة عمره الفني.
ليس معنى هذا أن الأشعار التي تتناول عالم البحر شحيحة جدا أو شبه منعدمة، وأنه بالتالي فاقد الشيء لا يعطيه. هناك بالتأكيد نصوص شعرية تتغنى بالبحر، غير أنها ظلت دون ألحان، وبالتالي لم يكتب لها أن تتحول إلى أغنية قابلة للأداء الغنائي.
ففي فترة ازدهار الأغنية المغربية، وأقصد بالخصوص سنوات السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، تركز اهتمام المطربين والملحنين على أداء أغاني تتطرق إلى العلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة، وفي التنافس على ذلك:
( ذب يا قلبي ذب، والأسمر معذبني، وتفكر مرة وطل علينا، ومحبوبة، ولا سماحة يا هوى..).
إنها عناوين لأغاني مغربية وما هو على شاكلتها، قائمة طويلة لا حصر لها من الأغاني التي تغنت بعاطفة الحب، أغاني طغت على امتداد سنوات عديدة ولا تزال، في ذخيرة الأغنية المغربية، وهو ما حجب النظر إلى فضاءات وعوالم لا تخلو من جاذبية، كما هو الحال بالنسبة للبحر.
مع ذلك، يمكن الوقوف عند إنتاجات غنائية مغربية أبدع أصحابها في التغني بالبحر وإبراز العلاقة الخاصة به وسبر أغوار نفسية الإنسان وهو في اتصال مع هذا الفضاء الغامض والمغري.
يا موجة غني
من أشهر أغاني الفنان الشعبي الحسين السلاوي الذي رحل قبل الأوان “يا موجة غني”، إنها أغنية تتغنى بالبحر بشكل صريح، بمعنى أنها تذكر مزاياه ومحاسنه وتظهر مدى التعلق به، العلاقة مع البحر تزداد فتنة وجاذبية خصوصا مع حضور المحبوبة، يقول الحسين السلاوي في مطلع أغنيته:
“يعجبني شط البحر
رمله وأمواجه تغني
مع الحبيب أنا نسهر
يصبح قلبي مهني”
يصل تعلق الفنان بالبحر إلى ذروته، حيث يتوجه إليه بالخطاب، ليبث إليه حقيقة مشاعره، غير أن هذه المشاعر شديدة الاتصال بحضور المحبوبة، إلى حد أنه قد يمنحنا الانطباع بأن البحر قد لا يظل له أي مدلول في غيابها، إن تمسكه بمحبوبته وفرحته بحضورها إلى جانبه بالقرب من البحر، جعله يتصور أن شكل هذا الفضاء البحري لا يفتن فقط، بل يطرب، يصدر بعض الأصوات التي تشبه الغناء. الفنان يتقاسم حبه مع كائنين: البحر والمحبوبة، يقول في متن أغنيته:
“يا موجة غني يا بحر غني
يا موجة غني على البحر نغني
كيف لي شايف محبوب متهني
آه أنا وأنت أنت وأنا
على البحر نغني
هكذا غنيت أنا على الموج
قلب العشيق يبكي كيف يروج
وسط البحر بانو ليا شي دروج
يا محلى حبنا احنايا بزوج
أنت اللي ترقصي لي
وأنت اللي تغني لي
آه على البحر نغني”
لقد كان الإيقاع الذي اختاره المرحوم الحسين السلاوي لهذه الأغنية، يتلاءم إلى حد بعيد مع جو الفرح السائد فيها، إنه إيقاع رشيق خفيف مبهج.. وزاد من كثافة هذه الشحنة العاطفية، استخدام ضمير المخاطب، كما أن المخاطب هنا هو البحر بالذات، وهو أسلوب نادر في التخاطب، حيث عادة ما نخاطب كائنا عاقلا، نرجو التواصل معه.
إن المغني هنا لا يكتفي بمخاطبة البحر أو موج البحر، بل يأمره، يتعامل معه باعتباره كائنا حيا، قادرا على التفاعل والتجاوب.
هذا الإحساس الجنوني القريب من الهذيان، هو بمثابة ترجمة لمدى ما يحس به من فرح بالقرب من محبوبته وكذا بالقرب من فضاء ساحر هو البحر.
أين يا شط لياليك؟
للفنان عبد الهادي بلخياط أكثر من أغنية عن البحر، وهذا شيء طبيعي بالنظر إلى غزارة إنتاجه، وحرصه على تنويع المواضيع التي تتناولها الأشعار الغنائية التي يقوم بأدائها، دون إغفال أنه يقيم في مدينة ساحلية هي الدار البيضاء، في أغنيته التي تحمل عنوان “الشاطئ” والتي كتب كلماتها الشاعر مصطفى عبد الرحمان ولحنها عبد السلام عامر، حضور كثيف للأحاسيس النوستالجية، سيما وأن التواصل مع هذا الفضاء البحري، أو بالأحرى مع شاطئه، لا يتم دون استحضار ذكريات خاصة، ذكريات يبدو من سياق الكلمات واللحن والأداء كذلك، أنها مقلبة للمواجع أكثر من أي شيء آخر. الفنان يأتي إلى شاطئ البحر لينفس عن حزنه، لكن الذكريات تلح عليه؛ فيتضاعف هذا الإحساس. يقول في مطلع الأغنية:
“أين يا شط لياليك النديات الحسان
أين غابت أين واراها عن العينِ الزمان
فرغت كأسي وجفت من منى النفس الدنان
أين يا شطُّ لياليك الندياتِ الحسان”
لوعة الحب أو العلاقة العاطفية مع المحبوبة تلقي بثقلها على أغنية الشاطئ، فإذا كانت الأغنية السالفة الذكر، يسود فيها التعبير عن الفرح وعن مظاهر التفاؤل، بالنظر إلى حضور المحبوبة، فإن في أغنية عبد الهادي بلخياط، مسحة من الحزن، اعتبارا لغياب هذه المحبوبة التي كان فضاء شاطئ البحر يجمعه بها، كل سطر من هذه القصيدة الغنائية يؤكد مدى افتقاده لمحبوبته، يقول في متن أغنيته:
“لا رمال الشط إذ راح يناديها تجيب
لا ولا يحنو على مدمعه الغالي حبيب
شفاه الوجد فأمسى
من جوى الوجد يذوب”
هناك درجة قصوى من اليأس، نلمسها في مقاطع هذه الأغنية التي تؤدى بإيقاع باعث على الحزن، نظرا للافتقاد إلى المحبوبة، وكذا لكون الفضاء، فضاء البحر، لا يلبث يذكر بها.
مقابلة البحر لا يرحل
الأغنية الشعبية التراثية، ونقصد بالخصوص أغنية العيطة، تستحضر بدورها فضاء البحر، في العديد من النماذج، سواء باعتباره فضاء مجسدا، أو مجرد رمز، يحبل بدلالات خاصة: القسوة أو العنف أو التيه أو الاضطراب.. إلى غير ذلك من الدلالات التي يجسدها البحر.
تقول الفنانة الشعبية الراحلة فاطنة بنت الحسين، في أغنيتها التي تتغنى بالبحر بشكل صريح:
“أنا بعدا مقابلة البحر لا يرحل
أنا بعدا مقابلة الأمواج لتعواج
والله ما نخمم ولا نرد لقلبي
خلي الهم يتصرف دابا يفرج ربي”
إن طبيعة البحر وشكله وتفاصيله وغير ذلك، تدفع الكثير ممن تغنوا به واستحضروه في أغانيهم، إلى التعبير عن الأحاسيس نفسها غالبا، هناك مسحة من الحزن والأسى تطوف بين سطور أغاني البحر، الإنسان عادة ما يقصد البحر ليدفن فيه أحزانه، وحتى عندما يأتي إليه وهو في حالة طبيعية، سرعان ما يقع تشويش في هذا الإحساس، اعتبارا لأن فضاء البحر يجعله يستحضر ذكريات جميلة، لا تتكرر.
> بقلم: عبد العالي بركات