الحدث في مصر

أصدر القضاء المصري حكمه في حق الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك ووزير داخليته الحبيب العادلي، وقضى في حقهما بالسجن المؤبد، واعتبر المصريون والمراقبون الأمر بمثابة (محاكمة القرن)، وتباينت المواقف وردود الفعل بعد ذلك، ونزل الآلاف من جديد إلى ميدان التحرير بالقاهرة، وأصبح المستقبل السياسي للبلاد مفتوحا على كل الاحتمالات اليوم.
من المؤكد أن الأحكام الصادرة ستكون لها انعكاسات سياسية، وتداعيات قد تستمر لسنوات قادمة، لكن مع ذلك فما حدث يستحق التسجيل، لكونه سابقة في البلدان العربية، حيث لأول مرة يقدم رئيس البلاد أمام القضاء ويصدر في حقه حكم.
وفي السياق نفسه، يسجل أيضا أن المصريين بعد نجاح ثورتهم لم يقتلوا رئيسهم المطاح به، ولم يجروه في الشارع كما حصل مع ديكتاتور ليبيا السابق مثلا، وإنما قدموه إلى العدالة، وعرضوه على محكمة مصرية عادية،وجرى تبادل الحجج والبيانات والإدانات بين المحامين والشهود، واستمرت الجلسات 46 جلسة، كما أن مبارك لم يفر خارج البلاد كما فعل ديكتاتور تونس بنعلي…
وبالرغم من اختلاف القراءات للأحكام الصادرة، وما يكون قد ميز المحاكمة في نظر هذا الطرف أو ذاك من قصور أو تجاوز أو غلبة الذاتي عن الموضوعي، ومشاعر الثأر والانتقام عن حيادية النصوص والإجراءات وموضوعيتها، فان المتفق عليه أن القضاء المصري نجح في عبور هذا الامتحان الصعب والحساس، وبالتالي خلف سابقة عربية.
والى جانب حيثيات الحكم وتفاصيله المسطرية والقانونية وتداعياته المستقبلية، فان السياق السياسي والمجتمعي يبقى هو المثير أكثر للانتباه وللمخاوف أيضا، حيث أن البلاد تستعد لخوض الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الذي سيتواجه خلاله المرشح الاخواني مع مرشح كان آخر رئيس وزراء على عهد الرئيس المحكوم عليه بالمؤبد، ومن ثم، فان الأحكام ستحضر في الشعارات الانتخابية، وفي التصريحات والبرامج، وفي الاتهامات كذلك، كما أنها حاضرة في خلفيات التفاوض بين الأطراف السياسية، وفي حسابات المؤسسة العسكرية، وفي مطالب المعتصمين بميدان التحرير..
مصر اليوم تواجه إذن الامتحان الأصعب، أي تجاوز منغلقات الاصطفافات الانتخابية، وتداعيات الأحكام الصادرة، وبالتالي النجاح في تثبيت الاستقرار والأمن، واستعادة الحياة الطبيعية في مختلف مؤسسات الدولة، وفي المنظومة الاقتصادية والإدارية للبلاد، والحيلولة دون أن تعود الأحداث كلها إلى نقطة الصفر.
إن مصر التي سجلت سابقة قضائية وسياسية على الصعيد العربي بتقديم رئيسها المخلوع إلى المحاكمة داخل البلاد، مطالبة اليوم بالتوحد لعبور كامل محطات (محاكمة القرن)، واستكمال بناء مؤسسات الدولة، وتعزيز الأمن والاستقرار في البلاد، وبذلك ستثبت للعالم أجمع أنها لازالت مصر الكبار، ولازال بإمكانها تحقيق النجاحات، وأنها قادرة على تجاوز مرحلة مبارك بتثبيت نظام بديل أكثر ديمقراطية وتعددية وانفتاحا وعدلا.
مصر ملزمة أن تكسب اليوم الرهان..

Top