الشاعر اللبناني الراحل سعيد عقل

عادة ما أتساءل: هل صحيح أنني كتبت شعراً بهذا الجمال؟
سعيد عقل ابن السابعة والتسعين ما يزال حاضر الذهن، ربما ينسى بعض التفاصيل المهمة، إلا انه لا يلبث أن يتذكرها إذا أوردت بعضاً منها على مسمعه الذي أصابه بعض الوهن.

لا يعيش على الماضي، على ما أنجز، بل يتطلع إلى المستقبل، وكأن المستقبل أمامه ما يزال ينتظر انجازاته وعطاءاته المشغولة بريشة فنان عتيق ومجرّب. هنا  مقتطف من حوار طويل أجرته معه الإعلامية لامع الحر ونشرته بمجلة شراع  سنة 2009.

* أين سعيد عقل اليوم؟
– اليوم، أنا مبسوط، ليس لأن هناك حروبا حول لبنان، مبسوط لأنني لست خائفاً على لبنان، لبنان قوي كثيراً، أنا مستقوٍ كثيراً بلبنان.أنا مرتاح ومطمئن على لبنان، ما عاد يهمني اذا كان السياسي الفلاني مثلاً يمد يده إلى ميزانية الدولة. هذا تفصيل غير مهم، هذه الأيام، وهذه الأقوال تجعلني معجباً بنفسي كثيراً، ولدي الكثير من وزن هذه الكلمات حول لبنان، وهي بمجملها مرعبة بجمالها وقيمتها.
* سعيد عقل قارب بإذن الله  مائة سنة، كيف تقضي نهارك اليوم؟
– عندما كانت عيناي قويتين كنت أبدع شعراً، ولو كان معنا فؤاد الترك أو جورج شكور لرأيت كيف يرويان أمامك أشعاراً لي، عندما اسمعها أنا أطرب لها ويقف شعر رأسي إعجابا وفرحاً بها، إلى حد أتساءل: هل صحيح أنني كتبت شعراً بهذا الجمال؟!
واللافت في شعري أن فيه غرابة وجمالاً غير موجود في الشعر الأوروبي كله، أي في شعر أثينا وروما وفرنسا، وأنا اعرف شعرهم جيداً ورغم ذلك، ليس لديهم شعر بهذه اللعبة، هذا الأمر يبقى في بالي، فأفتخر بأنني كتبت شعراً غير مكتوب في ثلاث لغات تمتلك أجمل شعر في العالم وأعظمه (أثينا وروما وفرنسا)، أنتجوا شعراً هو الأجمل في العالم، لكنهم لا يعادلون شيئاً قياساً بشعري، هذا الكلام فيه شيء من الكبر والافتخار بالنفس، لكنه صحيح.
* غير الشعر، ماذا تفعل خلال النهار؟
-لا اعمل أكثر من الشعر..
* ألا تحضر تلفزيوناً، ألا تسمع أخبارا..
– أنا شاعر، وماذا يمكن أن اعمل أكثر من الشعر.
* ألا تقرأ شعراً خلال النهار؟
-لا أقوم بأشياء بلا طعمة، أنا شاعر، وليس هناك ضرورة لأقوم بأي عمل آخر.
* يقال سعيد عقل آخر الشعراء الأصوليين وآخر رواده، أنت ماذا تقول؟
– لا، من الضروري أن يكون هناك آخرون، وأفضل مني أيضا، لا أحب أن أفاخر بأني أحسن شاعر في لبنان، بل أحب أن أفاخر بأن غيري شاعر جيد أيضا، لا استطيع أن أتصور أن أكون وحدي في لبنان شاعراً جيداً، وأنا لا أميل إلى استضعاف غيري، وأعتقد أنني إذا استضعفت غيري اصغّر نفسي كثيراً.
* المقصود أن الشعر العمودي إلى أفول، وأنت آخر رموز الشعر العمودي هل هذا صحيح؟
– ولكن أريد أن يكون شعري قد اثّر يوماً ما على الشعر أو في العالم، وأريد أن ينتج شعر مثل شعري وأفضل، لا أقبل أبدا أن يبقى الشعر صغيراً، من الضروري أن يكبر، وإذا كان سعيد عقل شاعراً جيداً فعليه أن يؤثر، ويترك شعراً عظيماً، لا أقبل أبدا أن يقف الشعر عند حدود شعري، من الضروري أن يكبر الشعر.
يقول سليمان العيسى وهو أكبر شاعر في سوريا، إذا العرب أعطوا كل مائة سنة سعيد عقل يعيشون مليار سنة، وأنا أرد عليه إن شاء الله العرب يعطون شعراً أفضل من سعيد عقل، لا اقبل أبدا أن يقف الشعر عند حدود سعيد عقل، يجب أن يكبر الشعر، ولو كان شعر سعيد عقل كما يقول سليمان العيسى، أقول له مرة أخرى أنا منتظر أن يعطي العرب شعراً أفضل من شعري أيضا، أنا لا أحب الكبرياء التي بلا طعمة، وأرد أنني أريد أن يكون غيري مثلي وأحسن وإذا كانوا الآن ليسوا كذلك، يفترض  أن يصبحوا الأفضل في المستقبل.
* أكاديمياً صنفت من الشعراء الرمزيين، لكن الرمزية في الشعر اللبناني تقتصر عليك وعلى أديب مظهر الذي لم يصدر له أي ديوان حتى الآن، هل تعتبر أن هناك فعلاً مدرسة رمزية، وهل وردة واحدة تكفي لنعتبر أن هناك حديقة؟
– كلمة شعر رمزي لا تستوقفني. في شعري شيء من الرمزية لكن شعري اكبر من ذلك، يضم كل أنواع الشعر في العالم، هؤلاء الذين يصدقون أنهم رواد مدرسة من المدارس ليسوا شعراء كباراً، الشعراء الكبار هم الذين يجعلون كل أنواع الشعر تصفق لهم، وليس فقط الشعر الرمزي، يجب أن يكون شعرك مشتملاً على جميع أنواع الشعر، وكأنه نوع شعري جديد، لم يخلق مثله في كل شعر العالم.
إذا كان في شعري فقط الأشياء الموجودة في كل شعر العالم، يكون سعيد عقل ليس عظيماً، يجب أن يكون في شعري شيء من المدارس المشهورة في الشعر، وشيء جديد على مستوى كل الشعر العالمي.
* يعني نستطيع أن نستنتج أنه ليس هناك مدرسة رمزية في الشعر العربي؟
– هناك مدرسة رمزية أكيد، والرمزية تمثل شيئاً صغيراً في شعر سعيد عقل، شعر سعيد عقل اكبر، هناك لعبات شعرية تخرج على أي نطاق معروف، الشعر بشكل عام يحتاج إلى جمال، والى غرابة، والى شيء غير موجود، وليس كل الشعر في العالم تتوافر فيه هذه الشروط.
شعراء المدارس لا يمتلكون كل هذه اللعبات، كل عصر يجب أن ينتج شعراء يمتلكون ميزات غير موجودة في الكتب التي تتناول الشعر، لا تستطيع أن تقول هذا شاعر رمزي، وهذا كلاسيكي، هذا أمر صغير على الشعر، الشعر يحتاج إلى أمور اكبر من ذلك بكثير، علينا أن نطالب بأمور أخرى لكي يقال عن شعرك هذا شيء خارج على كل المدارس، هذا مدرسة غريبة عجيبة، إذا لم يقل عن شعرك هذه المسائل فهذا يعني أنك لست بشاعر، وأقول في إحدى قصائدي: الشعر قبض على الدنيا مشعشعة/ كما وراء قميص شعشعت نجم/ فأنت والكون تياهان: كأس طلى/ دقت بكأس، وحلم لمه حلم.
وأقول ايضاً: “الشعر بعض الغيب غنى كطائر/ وبعض نهى ان رد رد يحيرني، أما إذا كان شعرك ينتمي إلى مدرسة من المدارس فهو ليس بشعر، عليك أن تكون من مدرسة لم يعرفها الشعر أصلا”.
* أنت عاصرت وعايشت شعراء عصر النهضة كنت واحداً منهم، ومن المبرزين بينهم، لكن يبدو انك كنت على خلاف مع البعض منهم، لماذا على الرغم من أنك تحب كل الناس.
– أنا أحب وأريد كل الناس، ولكن عندما يكون في العصر أناس لا يمكن أن يحبوا، أتوقع أن الله سوف يرجع يوماً ويقرر أن يجعل كل الناس جيدة، ويمكن أن تحب، الآن يقال إن فلاناً يسرق الناس، وان هناك أشخاصا عاطلون.. أنا أتصور أن الله وأنا وأنت نحب أن تصبح كل الناس عظيمة ونتمنى أن يصيّر كل الناس جيدة وفي ذلك أقول وأحب ربي الناس كلهم/ بيضاً فلا فرقت أو سوداً. الله يحب كل الناس كيف ذلك؟ يعني يصيرهم اوادم، إذا بقي في الناس شعراء ليسوا اوادم، فهذا يعني أن الله لم يتدخل بالشكل الكافي، لكي يصبحوا اوادم، ليس الحق على الناس، الحق على الله إذا لم يتدخل..
ولذا سيتدخل ويصيرهم كلهم اوادم، من المفترض ألا يظل فوق هذه الأرض أناس ليسوا اوادم، وإذا كانوا ضعفاء فالله يتدخل ليعطيهم القوة، كيف يحبهم كلهم، ويتركهم في حالة سيئة، فلان سيء، وفلان يسرق وفلان يكذب، وهذا يجيء إلى الحكم ولا يقوم بواجباته هذا أمر غير معقول ويستطرد فيقول: كل من يجيء الى الحكم، عليه أن يضع في رأسه هذه الكلمة “عليّ ألا اترك فقيراً في بلادي”، إذا نفذ هذا الكلام يرضي الله.
* سعيد عقل شعرياً يستغرق في الفرح مركزاً على العنصر الموسيقي في القصيدة، أين هو مكان العاطفة في مجمل كتاباتك؟
– العاطفة شيء ضروري في الشعر، أي إنسان يجب أن يكون عاطفياً، لكن الشاعر يجب أن يكون لديه ما هو اكبر من العاطفة يجب أن يكون لديه جمال وسحر وشيء جديد لم يخطر ببال أحد سابقاً، إذا طلبت من الشاعر عاطفة، يقول لك: كل الشعراء كان لديهم عاطفة، لا يستطيع الشاعر أن يكتب سطراً بلا عاطفة، هل هناك احد بلا عاطفة، فإذا طلبت منه عاطفة، لا تكون قد طلبت منه شيئاً لا يتمكن الإنسان من فتح فمه بغير عاطفة، بل المطلوب منه عاطفة إلى جانب الجمال والرقي، والجديد والغرابة، هذا شعر لم يكتب مثله، كل شاعر إذا قيل له هناك شعر مكتوب مثل شعرك فهذا يعني انه ليس شاعراً وفي مقدمة المجدلية أقول: “العاطفة هي صنم الرومنطيقية” وهنا اعني العاطفة المائعة، التي ضيعت الناس، أنا ثرت على العاطفة التي تستدر دموع الناس، ولكن ما ألغيت العاطفة، لدي نسمات عاطفة رائعة، لكنني لم اسمح للعاطفة أن تتغلب على الخيال والعقل والعناصر الأخرى، أقمت توازناً، وألغيت استدرار العواطف والدعوة إلى التلذذ بالألم والبكاء.
* سعيد عقل شاعر المهرجان وربما هو نفسه المهرجان، اين أصبح دور المهرجانية في الشعر العربي اليوم بعد رحيل كبار الشعراء وهيمنة مفاهيم الحداثة في الساحة الإبداعية؟
– الحداثة لا أريد أن أهاجمها، ولا أريد أن احكي عنها لا بالإيجاب ولا بالسلب، كل ما أريد قوله هو: إذا أردت أن تكتب شعراً، فهذا يعني أن الناس يفترض أن تصرخ بأن ما تقوله شيء غريب وجميل، وجديد، ولم يكتب مثله قبل اليوم، إذا لم يقل في شعرك هذا الكلام فأنت لست بشاعر.
* يعني لم يعد هناك مهرجانية اليوم؟
– لا، هناك بلدان كثيرة تقيم مهرجانات.
* للمرأة دور كبير في شعرك، هل تغيرت نظرتك إليها؟
– أبدا، المرأة الشريفة النبيلة ما تزال توحي بالشعر العظيم. هذه المرأة التي أعطاها الله الشرف ما تزال على ما هي عليه من إلهام للشعر.
* الغزل له علاقة بالشباب كما يقال، وكأن الشعر يتغذى من الدم.
– (مقاطعاً) الغزل ليس للمسائل التي فيها عار ووسخ، للمرأة الشريفة فقط، الغزل الذي لا يتغنى بالقداسة ليس غزلاً، الغزل لمن يتغنى بالفضائل.
* أنت تتحدث عن المرأة دائماً بشكل ايجابي، ألم تلدغك إحداهن يوماً؟
– لا أتغزل إلا بالمرأة النبيلة، المرأة التي ترمي نفسها بين يديك ليست امرأة عظيمة. أتغزل بالمرأة التي لم تحب إلا زوجها، المرأة التي تترك نفسها لأي كان، ليست أهلا للغزل، المرأة التي تستحق الشعر هي المرأة التي تغزلت بها، المرأة التي لم تلمس زوجها إلا بعد العرس هي التي غناها سعيد عقل، أنت للبيض وكن للسحر/ ما همني حبي انا يبقى: سعيدة به وان أشقى/ تحبني أو لا تحب/ أنت أنت الأبقى.

 

 

نعشُ سعيد عقل تحفة فنية من أرز لبنان وصخره

سجي جثمان الراحل في ناووس حجري نحته الفنان رودي رحمة، منذ سنة تقريبا، استعدادا لهذه اللحظات، وهو نعش من الصخر وقد نقشت عليه أسماء الكتب التي ألفها وبعض العبارات الشرعية التي رددها.
وهكذا رقد عقل إلى الأبد على خشب أرز عمره أكثر من 3000 عام، استطاع أن يحصل عليه النحات من إحدى أشجار الأرز التي اقتلعت نتيجة عواصف شتاء عام 1983.
شكل هذا الخشب القاعدة التي تحمل النعش المؤلف من صخرة رخام مجوّفة.
وأشار النحات رحمة إلى أنه «اتخذ قرار تصميم ونحت التابوت من تلقاء نفسه، وذلك عندما رأى أن الشاعر الراحل سعيد عقل بدأ يكبر بالعمر وحالته تتعب، فقال لنفسه انه لا يجوز أن يدفن إلا بشيء يليق به، وفريد من نوعه»، مضيفا أن « 100 سنة من الشعر وحب لبنان يجب ألا يدفن بتابوت عادي ويمرّ مرور الكرام، لذلك قررت أن يكون من الصخر اللبناني الذي جرحته الرياح، خصوصا أننا كمسيحيين مررنا بفترات تجريح كثيرة وصمدنا، فهذا هو سعيد عقل وهذا هو حبه للبنان».

سيرة ذاتية

سعيد عقل (4 يوليو 1912 – 28 نوفمبر 2014)، شاعر لبناني يعتبر من أبرز الشعراء اللبنانيين المعاصرين. عمل في التعليم والصحافة.
ولد في قضاء زحلة، في محافظة البقاع بلبنان. لقب بالشاعر الصغير نسبة إلى انه كان شاعرا منذ طفولته وقد تميز شعره بالتجديد.
يعتبر سعيد عقل من أكبر دعاة القومية اللبنانية وقد ساهم بشكل كبير في تأطير فكرها الإيديولوجي من خلال التركيز على «الخاصية اللبنانية». حيث أنه بسنة 1972 كان من مؤسسي حزب التجدد اللبناني، كما كان يعتبر الأب الروحي لحزب حراس الأرز الذي يتزعمه إتيان صقر. لكن يؤخذ عليه تأييده للقضاء الإسرائيلي على الوجود الفلسطيني في لبنان عبر تأييده الهجوم الإسرائيلي على لبنان بالعام 1982 نكايةً بالوجود العسكري الفلسطيني المسلح في لبنان.
أبجديته المصممة للغة اللبنانية استخدمت الأبجدية اللاتينية، بالإضافة إلى بضعة أحرف مصممة حديثا وبعض الحروف اللاتينية المعلمة لتتناسب مع علم الأصوات اللبناني. أبجدية عقل اللاتينية احتوت 36 حرفاً.

من أعماله الدبية:

بنت يفتاح (مسرحيّة) – 1935
المجدليّة (ملحمة) – 1937
قدموس (مسرحيّة) – 1944
ردنلى – 1950
مشكلة النخبة – 1954
أجمل منك… لا! – 1960
لبنان إن حكى (تاريخ وأساطير) – 1960
كأس الخمر – 1961
يارا (بالحرف القومي اللبناني) – 1961
أجراس الياسمين – 1961
كتاب الورد – 1972
قصائد من دفترة ا – 1979
دلْزى – 1973
كما الأعمدة – 1974
خماسيّات (بالحرف القومي اللبناني) – 1978
الذهب قصائد (بالفرنسيّة)- 1981
وقد غنى له من كلماته كبار المغنين اللبنانيين، أبرزهم فيروز التي غنت له من ألحان محمد عبد الوهاب «مر بي»، ومن ألحان الأخوين رحباني قصائد عدة، أشهرها ما يتغنى بالقدس والشام ومكة المكرمة.

Top