كرَّس المفكِّر الشَّهيد مهدي عامل، كتابَه “الفكر اليومي”، الَّذي صدر بعد استشهاده، لتفكيك بعض نماذج “الفكر اليومي” التي كانت رائجة في زمانه.
و«الفكر اليومي»، بحسب مهدي عامل، هو فكر لا يحب التعقيد؛ لأنه يرهقه؛ لذلك، فإنه يميل إلى الاختزال والتبسيط والبداهة، ويتجنب الاقتراب من المفاهيم في حال تعبيرها عن الحركة والتناقضات؛ تقوم الخطابة فيه مقام البحث والتحليل؛ ويتسم بالخفة، والارتباك، وعدم الاتساق، والتناقض؛ وينبهر بالأحداث الكبيرة انبهارا يشل قدرته على التحليل.
كان العالم، في زمن تأليف مهدي عامل لهذا الكتاب، لا يزال يملك مشروعاً أمميا للاشتراكيَّة والتَّحرُّر الوطنيّ ومناهضة الرأسماليَّة والإمبرياليَّة. وكان لهذا المشروع فكرٌ ثوريٌّ منتجٌ، ومِنْ ضمن رموزه، مهدي عامل نفسُه.
“الفكر اليوميّ”، الآن، في زمن الليبراليَّة المتوحِّشة وأفكارِها المبتذلة الضَّحلة، أكثرُ انحطاطاً ممّا كان عليه في السَّابق. ويمكن وصفُه بأنَّه فكر نمطيّ فقير، تصنعه الوجباتُ الإعلاميَّة السَّريعة، والكسلُ الذهنيّ الشَّديد، والمصالحُ الطَّبقيَّة (والاستعماريَّة) الجشعة التي لا يبرِّرها أيُّ منطقٍ إنسانيّ سليم، والسِّياساتُ الانتهازيَّة بمناوراتها الهابطة والرَّخيصة؛ ويعيدُ صياغتَه «مثقفو الشَّنطة» الَّذين يحترفون بيع «الأفكار» النَّمطيَّة الجاهزة (أو يؤجِّرونها) بالقطعة وحسب الطَّلب. إنَّه فكر الهزيمة، والاستخذاء، والرُّكوع الذَّليل لشروط الأعداء، والبحث البهيميّ عن مكاسب صغيرة مغمَّسة بالخنوع والوضاعة، وسط الخراب والدَّمار ومصادرة مستقبل الأمّة والتَّفريط بحقوقها ومصالحها. لذلك، فهو فكر تبريريّ، ضحل، يغيِّبُ الجوهريَّ في الصّراع ويبرزُ الفروعَ والتَّفاصيلَ والمظاهر، ويعطِّلُ التَّحليلَ والتَّفكيرَ العميقين، ويحدُّ مِنْ بُعد النَّظر، دافعاً النَّاس إلى الغرق في سيل الأحداث اليوميَّة العابرة والمناورات السِّياسيَّة المخادعة. وتأخذه العزَّةُ بالجهل بينما هو يكرِّر بلا ملل مقولاتِه السَّطحيَّةَ الفارغة؛ لأنَّه لا يملك غيرها ولا يدرك مدى ضحالتها وفقرها.
وننتقل، الآن، إلى إلقاء الضَّوء على بعض نماذج «الفكر اليوميّ» المنتشر حاليّاً على هامش الصّراع بين روسيا والأطلسيّ..
1 القول بأنَّ روسيا الآن ليست الاتِّحاد السُّوفييتيّ..
هذا الكلام يقفز عن المرحلة الكارثيَّة الفاصلة بين روسيا الحاليَّة والاتِّحاد السُّوفييتي.. وهي مرحلة يلتسين والمافيا الصّهيونيّة اللصوصيّة الَّتي كانت تحيط به، مرحلة الخضوع الذَّليل للهيمنة الأميركيَّة والتَّدخّلات الأميركيّة الفظَّة والمباشرة في شؤون روسيا، المرحلة الَّتي كانت فيها روسيا رهينة لخطط تفتيتها وإفقارها وإضعافها وتهميشها.
لذلك، الكلام الصَّحيح، الَّذي يجب أن يُقال، في هذه الحالة، هو «روسيا الآن ليست روسيا يلتسين»؛ بدلاً مِن القول “روسيا الآن ليست الاتِّحاد السُّوفييتيّ”.
روسيا الحاليَّة لم تأتِ ردَّاً على الاتِّحاد السُّوفييتيّ، بل ردَّاً على مرحلة يلتسين، وهي – على النَّقيض مِنْها – تمثِّل محاولةً كبيرةً وجريئةً لاستعادة ثِقَل الاتِّحاد السُّوفييتيّ وقوَّته وأكبرَ قدرٍ ممكن مِنْ مكانته الدَّوليَّة؛ لكن – بالتَّأكيد – مِنْ دون مشروعه الثَّوريّ، مع الأسف.
و«الفكر اليوميّ» لا يُلاحظ أنَّ الغرب الأطلسيّ (وعلى رأسه الولايات المتَّحدة) يُعامل روسيا الرَّأسماليَّة بمثل ما كان يعامل به الاتِّحاد السُّوفييتيّ، بل وأسوأ..
آنذاك، فرض الغربُ ستاراً حديديّاً على الاتِّحاد السُّوفييتيّ والدُّولِ المتحالفةِ معه، بذريعة مواجهة الشُّيوعيّة، ثمَّ راح يسمِّيهم دولَ السّتار الحديديّ، ويروِّج هذه التَّسميةَ بخبثٍ ومكر عبر ماكينته الإعلاميّة الجبَّارة، مصوِّراً «السِّتارَ الحديديَّ» كخيارٍ للاتِّحاد السُّوفييتيّ وحلفائه وليس العكس. وكان مثقَّفو الشَّنطة في عالمنا العربيّ يتلقَّفون هذه الوجبة الإعلاميّة الرَّديئة ويكرِّرونها بخفَّةٍ وسطحيّةٍ وبلا توقّف.
روسيا الرَّأسماليّة بذلت جهوداً كبيرة للانفتاح على الغرب الرَّأسماليّ وتوسيع تعاونها معه.. إلى حدّ أنَّ قادتها أصبحوا يتحدَّثون عن قادة الغرب بوصفهم شُركاء لهم..
ولكن، ماذا كانت النَّتيجة؟
النَّتيجة هي ما نراه الآن، حيث تضطرّ روسيا إلى التَّقدّم إلى الأمام، في خطوة خطيرة ومكلفة، لملاقاة العدوّ في الوقت المناسب والمكان المناسب، وقبل أن يختار هو المكان والوقت المناسبين له للهجوم عليها. وفي خلفيَّة ذهنها دائماً الهجومُ النَّازيُّ الغادر.
وهذا يؤكِّد أنَّ روسيا، سواء أكانت سوفييتيّة اشتراكيّة أم رأسماليّة، مرفوضة من الغرب تماماً ولا يقبلها إلا وهي ضعيفةً مهمَّشةً، وتسير على طريق التفتت والتَّشرذم.. كما كان الحال أيَّام يلتسين. وعندما تنهض ويستعصي على الغرب تفتيتها أو إضعافها، فإنَّه يهاجمها بمختلف الطُّرق الممكنة ويحجزها خلف ستارٍ حديديّ وإلكترونيّ سياسيّ واقتصاديّ وثقافيّ..
فمَن الَّذي يحيط نفسه حقَّاً بالسِّتار الحديديّ الآن؟ من الَّذي يحرص على حجب الصّوت الآخر المغاير، ليسمع صوته وحده؟
ثمَّ إلى أين يمكن أن يقود هذا الحصار المتمادي، وهذا الجدار المتعالي.. الَّذي يُصبح، شيئاً فشيئاً، جداراً بين الغرب وبين الشَّرق وليس بين روسيا وحدها وبين الغرب؟
يجدر بي أن أوضِّح، هنا، أنَّني استخدم مفهوميْ «الشَّرق» و«الغرب» لا بوصفهما مفهومين مكانيين، بل بما يشيران إليه مِنْ مصالح مشتركة واصطفافات موضوعيَّة ضروريَّة. وفي هذا السِّياق، تصبح اليابان وكوريا الجنوبيّة وأستراليا، على سبيل المثال، غرباً؛ في حين يصبح معظم بلدان أميركا اللاتينيّة وجنوب إفريقيا شرقاً. وعلى هذا الأساس، تتشكَّل، فعلاً، فجوة متزايدة الاتِّساع بين الشَّرق وبين الغرب.
2 القول بأنَّ الصِّراع الدَّائر الآن هو صراع إمبرياليَّات..
لقد بدأ البعض بتسمية روسيا والصِّين كدولتين إمبرياليَّتين منذ وقوفهما إلى جانب سوريا في الحرب الظَّالمة الَّتي شُنَّتْ عليها.
في الواقع، روسيا، مثل معظم دول العالم، تُصارع كي لا يتمّ تفتيتها وتهميشها، وكي تظلّ مالكة لحقِّها في التَّنمية والتَّطور المستقلّين. وهذا ليس سهلاً في ظلّ هذا النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ الَّذي يُعاني من الاستقطاب بين مراكز مهيمنة ومستغِلَّة وبين أطراف مهمَّشة ومستَغَلَّة. فالمراكز لم تتهاون يوماً مع احتمالات انتقال أيّ دولة من الهوامش إلى المراكز.. أو حتَّى مغادرتها الحالة الهامشيَّة الطَّرفيَّة إلى التَّنمية الوطنيَّة المستقلَّة.
وفي ما يخصّ بلادنا العربيّة، نذكِّر هنا بتعامل المراكز الرّأسماليّة الدّوليَّة مع حركة النَّهضة الرَّأسماليّة الطَّموحة الَّتي قادها محمّد عليّ في مصر. لم يكن محمّد عليّ معادياً للغرب، بل أراد الاقتداء به وأن يصبح مثله؛ لكنَّهم حشدوا صفوفَهم ضدّه، وتحالفت معهم الدَّولة العثمانيّة القروسطيَّة، لتهشيمه وإذلاله وإنهاء مشروعه النَّهضويّ.. الوطنيّ والقوميّ. ومثل هذا فعلوه مع جمال عبد النَّاصر ومشروعه. ولم تغادر دولة مصر موقعَها الهامشيَّ الطَّرفيّ إلا في ظروف خاصّة.
والآن، كيف لعاقل ومنصف أن يماثل بين روسيا، الَّتي تدافع عن أمنها ووجودها ومستقبلها، فتجد نفسها، موضوعيّاً، في موقع الدِّفاع عن حق شعوب العالم ودوله (خصوصاً الأطراف) في التَّحرُّر واختيار طريقها الخاصّ لبناء نفسها والإعداد لمستقبلها – وبين الغرب الأطلسيّ الَّذي يسعى بكلّ السُّبل لإدامة هيمنته على العالم، ولأن تظلّ قوّتُه الغاشمة طليقة ليستخدمها متى شاء ضدّ كلّ مَنْ يخرج على طاعته، ولضمان استمرار فرص استغلاله ونهبه للشّعوب والبلدان بلا حدود أو قيود.
3 القول بأنَّ الصّراع الجاري الآن هو ترتيب أميركيّ غايته ضرب العلاقة بين أوروبّا وروسيا..
العلاقة بين أوروبّا وروسيا لم تكن «سمن على عسل» قبل هذه الحرب، كما أنَّ أوروبّا كانت دائماً شريكاً حقيقيّاً للولايات المتَّحدة في الهيمنة على العالم واستهداف روسيا، ولم تكن مجرَّد خادم للمصالح الأميركيّة؛ بل كانت دائماً شريكاً في ترتيبات وخطط إدارة النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ وتأمين دوام استغلال البلدان والشّعوب الأخرى. وأذكِّر، هنا، على سبيل المثال، بما كان يُسمَّى في سبعينيَّات القرن الماضي «اللجنة الثُّلاثيَّة» الَّتي كانت تخطِّط وتنسَّق تحرُّكات الغرب وتوجُّهاته نحو العالم كلّه. وهذه اللجنة – كما هو معروف – كانت تمثِّل الولايات المتَّحدة واليابان وأوروبّا.
صحيح أنَّ الهيمنة الأميركيّة تفاقمتْ بعد انهيار الاتِّحاد السُّوفييتيّ، لكن ظلّ هناك الكثير من المصالح الَّتي تجمع الغرب مع الولايات المتَّحدة، حتَّى وإنْ حدثت اختلافات أو تباينات بين ضفَّتي الأطلسي أو بين أطرافه المختلفة.
في الأحوال العاديَّة.. في أحوال السِّلم والهدوء، يختلفون مع بعضهم البعض براحتهم، ويتنافسون ما طاب لهم، ويسعى كلٌّ منهم لاقتناص الفرص السَّانحة له لزيادة مساحة مصالحه المحقَّقة؛ لكن في الأزمات والمنعطفات، وتحديداً عندما يبدو أنَّ هيمنة الغرب مهدَّدة، ينتظمون في صفٍّ واحدٍ خلف الولايات المتَّحدة (قائدتهم)، ويتكلّمون كأعضاء في كورس واحد.
القسم الأساسيّ مِنْ فائض القيمة في العالم كلّه، ومِنْ ضمنه الصِّين (وروسيا.. قبل العقوبات الَّتي فُرِضَتْ عليها)، كان يذهب إلى الغرب.. صحيح أنَّ الحصَّة الأكبر مِنْ هذا الفائض تذهب إلى الولايات المتَّحدة؛ لكنَّ الآخرين جميعاُ لهم حصصٌ فيه.. حتَّى إن كانت متفاوتة.
الغرب يرى هيمنتَه، واستفرادَه في استغلال شعوب العالم وبلدانه، مهدَّدين الآن؛ لأنَّ روسيا والصِّين (ودول أخرى) لم تعد تسلِّم بهذه الهيمنة أو تخضع لها. وكان من اللافت، في خطابٍ للرَّئيس الرُّوسيّ، فلاديمير بوتين، قبل يومين، أنَّه قال جازماً: هيمنة الغرب على العالم لن تستمرّ.
ولذلك، فإنَّ اختزال الصِّراع بأنَّه ناتج عن ترتيب أميركيّ لتخريب العلاقة بين روسيا وبين أوروبّا هو مجرَّد فكرة نمطيَّة تردِّدها الماكينة الإعلاميَّة ويكرِّرها العديد من الَّذين ينتدبون أنفسهم لتقديم تحليلات في شأن الصِّراع الدَّائر الآن. هذه الفكرة، تفترض أنَّ أوروبّا وروسيا يقودهما أشخاص على درجة كبيرة من السَّذاجة والغفلة، وليس لديهم مراكز أبحاث ودراسات ومستشارون يساعدونهم في اتَّخاذ القرار؛ الأمر الَّذي يجعل الولايات المتَّحدة تتلاعب بهم وتورِّطهم في صراعاتٍ خطيرةٍ تهدِّد مصالح بلدانهم.. كما لو أنَّهم مجرَّد دمى تحرِّكها كيفما شاءت!
4 القول بأنَّ الغاية مِن الصِّراع الحاليّ هي تسويق السِّلاح..
هذه الفكرة شاعت كثيراً في الفترة الأخيرة، في وسائل الإعلام، وتلقَّفها محلِّلون وردَّدوها. وفحواها أنَّ الولايات المتَّحدة تآمرتْ لتفجير هذا الصِّراع مِنْ أجل تسويق سلاحها!
التَّسويق، سواء أكان للسِّلاح أم لسواه، هو ممارسة رأسماليَّة روتينيّة؛ لكن هل الصِّراع الحاليّ مجرّد صراع مفتعل لتسويق السِّلاح؟ أعتقد أنَّ هذا تبسيط شديد. وقد سبق أن فصَّلنا طبيعة الصّراع الحقيقيّة.
5 القول بأنَّ روسيا فوجئت بحجم ردَّة فعل الغرب على عمليَّتها العسكريَّة..
هذا الكلامٌ أيضاً يفترض أنَّ الرُّوس قاموا بخطوتهم الكبيرة هذه بشكلٍ ارتجاليّ.. مِنْ دون دراسة جميع جوانبها بدقّة، ومِنْ دون توقّع كلّ مآلاتها المحتملة.. بتفاصيلها وتشعّباتها، ومِنْ دون وضع خطط وسيناريوهات متعدِّدة لمواجهتها.
وبرأيي، أنَّ أنظار الباحثين يجب أن تتَّجه، بدلاً مِنْ ذلك، إلى احتمالات الاستجابة الرُّوسيَّة لتحدِّيات هذا الصِّراع، والسِّيناريوهات المطروحة في هذا المجال..
في العادة، نتحدَّثُ عن فكِّ الارتباطِ مع المراكزِ الرَّأسماليَّةِ الدَّوليَّةِ كعمل كفاحيّ مِنْ أجل التَّنميةِ الوطنيَّةِ المستقلّةِ؛ لكنْ، في حالةِ روسيا، نجد أنَّ المراكزُ الرَّأسماليَّةُ الدَّوليَّةُ هي الَّتي تفكُّ الآن ارتباطَ هذه الدَّولةِ الكُبرى بها. يمكننا أن نرى، هنا، أنَّها تُطلقُ سراحَها مِنْ حظيرةِ الاستغلالِ والقهرِ الغربيَّةِ الدَّاروينيَّة..
فما الَّذي ستفعلُه روسيا بهذه الحُرِّيَّة؟
لكي تنجحَ روسيا في مواجهةِ هذا الحصارِ القاسي والإقصاءِ الهستيريِّ، اللذين يستهدفانها، ستضطرُّ إلى التَّمحورِ على ذاتِها، وحشدِ طاقاتِها، وزيادةِ دورِ الدَّولةِ في اقتصادِها. ونحن رأينا أنَّ بعضَ إجراءاتِ التَّأميمِ المحدودةِ قد اتُّخِذتْ هناك كردٍّ على بعض «العقوباتِ» الغربيَّةِ. فإلى أين ستمضي هذه العمليَّةُ مع اشتداد أُوارِ الصّراعِ؟ هل ستسيرُ باتِّجاهِ تعزيزِ رأسماليَّةِ الدَّولةِ الوطنيَّةِ؟ أم أنَّ للتَّاريخِ اقتراحاً آخرَ؟
روسيا بلدٌ عملاقٌ.. قارَّةٌ، وفيه الكثير من الثَّرواتِ والإمكاناتِ، وشعبُه صاحبُ ثقافةٍ عريقةٍ وله مساهماتٌ أساسيّةٌ في الثَّقافةِ العالميّةِ والتَّاريخِ العالميِّ، كما أنّه ثريٌّ جدّاً بالكوادرِ العلميّةِ والفكريّةِ؛ فهل سيكون غريباً إذا ما دفعه هذا الصِّراعُ المريرُ، وهذا الحصارُ الشَّديدُ، إلى البحثِ، أكثرَ فأكثرَ، عن مكامنِ قوَّتِه ومصادرِ اعتمادِه على نفسِه، ليتابعَ تطوُّرَه ونماءه بوتيرةٍ متصاعدِةٍ؟
في كلامِ القادةِ الرُّوسِ الأساسيين، في الفترة الأخيرة، ثمَّة ما يشي بذلك الاحتمالِ.
6 القول بأنَّ الرُّوس فشلوا في تحقيق أهدافهم..
بالمناسبة، ما هي أهدافهم؟
هذا ما يقفز عنه أصحاب هذا القول المرسل. الرُّوس أعلنوا، منذ البداية، أنَّ أهدافهم هي تثبيت وضع أوكرانيا كدولة محايدة.. كما كان دستورها ينصّ حتَّى العام 2014، ونزع سلاحها، واجتثاث العصابات النَّازيَّة منها. وواضح أنَّ العمليَّةُ العسكريّةُ في أوكرانيا ستنتهي بتحقيقِ هذه الأهداف، بل لقد وضع الأوكرانيّون موافقتهم على بعضها على مائدة المفاوضات.
أمَّا أهداف الصِّراعُ الاستراتيجيُّ الَّذي يتجاوزُ أوكرانيا، أي الصّراع على طبيعة النِّظام الدّوليّ، فسيأخذ تحقيقها وقتاً أطولَ، وستكون مخاضات ولادتها أشدَّ إيلاماً. لكن ثمَّة أمرا واقعا سيفرض نفسه يوماً بعد يوم.
وبرأيي، تكريسُ النَّظامِ الدَّوليِّ الجديدِ، لن يؤدِّي إلى تعدّدِ الأقطابِ فقط، بل سيؤدِّي أيضاً إلى انتقالِ مركزِ العالمِ من الغربِ إلى الشَّرقِ. طوالَ حوالي خمسةِ قرون كان الغربُ هو مركزُ العالمِ. أمَّا الآن، فمن الواضحِ أنَّ الشَّرقَ سيكون هو موقعَ الثّقلِ في النِّظامِ الدَّوليِّ الجديدِ.
الغرب الآن في حالةِ إنكارٍ (بالمعنى النَّفسيّ)، تجعلُه يتجاهلُ الواقعَ الجديدَ، الَّذي يتشكَّلُ بدأبٍ وثباتٍ أمام ناظريه، ويرفض الاعترافَ به والتَّعاملَ وفقَ شروطِه؛ كما تجعله يتوهَّم أنَّ روسيا معزولة؛ في حين أنَّه هو المعزول، في الحقيقة، هذه المرَّة. فإذا ما قفزنا عن المجاملات والمسايرات الشَّكليَّة، وقفزنا عن حركة القصور الذَّاتي الَّتي تُظهِر الغربَ كما لو أنَّه لا يزال هو وحده مَنْ يتحكَّم بالعالم، نجد أنَّ العالم يتغيَّر بشكلٍ حقيقيّ، ونجد أنَّ الغرب (بقيادة الأنجلوسكسون) يقود حربه منفرداً ضدّ روسيا.. بخلاف كلّ حروبه السَّابقة.
وإذ ترتدّ «العقوبات» على أصحابِها وتؤذيهم مثلما تؤذي روسيا، وينتظر العالم مَنْ سيقول «آخ»، أوَّلاً، يشتدّ الصّراع، ويشتدّ معه الضّغطُ مِنْ أجل الفرز القسريّ، على نحوٍ هستيريٍّ. وها هو الغربُ يتعامل، مرَّةً أخرى، مع العالمِ، على أساسِ المقولةِ الشَّهيرةِ «مَنْ ليس معنا فهو ضدّنا»؛ لكن من الملحوظ أنَّ ثمَّة شروخاً كثيرةً قد بدأت تظهرُ، هذه المرَّة، في الجبهة الَّتي كان هذا الغرب يجرّها في العادة وراءه في صفٍّ طويلٍ ذليل. كما أنَّ قوىً عديدةً استغلَّت فرصة انهماك الغرب في الصِّراع مع روسيا، لتصفِّي حساباتِها القديمةَ والجديدةَ مع بعضِ خصومِها المحسوبين على الغرب.
في وهجِ العمليَّةِ العسكريَّةِ الرُّوسيَّةِ في أوكرانيا، رأينا الباكستانَ والهندَ ودولاً أخرى ترفضُ أوامر الغرب بالانجرارَ معه في معاداةِ روسيا، ورأينا الصِّينَ ترفعُ صوتَها عالياً في وجهِ المحاولاتِ الأميركيّةِ المحمومةِ لتثبيتِ فصلِ تايوان عن البرِّ الصِّينيِّ الرَّئيسيِّ؛ كما رأينا إيرانَ تقصفُ مركزاً للموسادِ الإسرائيليِّ في كُردستان العراق؛ بل ورأينا الإمارات والسّعوديَّةَ تتمنَّعان في مواجهة مساعي الأميركيين لجرِّهما إلى أتون الصِّراعِ الدَّائرِ بين روسيا وبين الأطلسيّ؛ وأخيراً رأينا الرَّئيس بشَّار الأسد يقوم بأوَّل زيارة له منذ سنوات طويلة إلى بلدٍ عربيّ.. فتكون هذه الزِّيارة إلى الإمارات.. فيا لها مِنْ مصادفة!
هذه مجرَّدُ تداعيات أوَّليَّة؛ فكيف سيكون الحالُ، إذن، بعدما تحقق روسيا أهدافَها مِنْ عمليَّتها في أوكرانيا.. وتُثبِتُ نهائيّاً أنَّ إرادةَ الأطلسيّ لم تَعُد قَدَراً لا رادَّ له؟!
على الخلاف مِنْ ذلك، كان السُّلوك الرَّسميّ في لبنان والأردن؛ حيث اُتُّخِذَتْ مواقفُ رسميَّةٌ منحازةٌ للغربِ في الصّراع الحاليّ!
في لبنان والأردن، التَّوجيه والقرار الرَّسميّ يصدران مِنْ مقرّ السَّفارة الأميركيَّة في بيروت وعمَّان، وليس أبعد مِنْ ذلك.
وعلى سبيل المثال، فها هو السَّفير الأميركيّ في الأردن، هنري ووستر، يطلب، قبل أيَّام، بوقاحة، مِنْ قناةٍ تلفزيونيَّةٍ محلِّيَّةٍ أن تقلِّل مِنْ نقلِ الأخبارِ عن قناتي روسيا اليوم وسبوتنيك الرُّوسيَّتين!
الإعلامُ في الأردن – مع الأسف – ملتزمٌ بخطِّ التَّحرير الصَّحفيّ الصَّادر مِنْ واشنطن؛ لذلك، فإنَّ ما قصده السَّفير، في الواقع، هو التَّوقَّف تماماً عن نقل أيّ أخبار أو موادّ إعلاميَّة عن المصادر الإعلاميَّة الرُّوسيّة.
بالنَّتيجة، هذا الصِّراع سينتهي بانفتاح باب الخيارات المستقلَّة أمامَ الشَّعوبِ والدُّولِ؛ فهل ستستفيد الدُّولُ العربيَّةُ والشّعوبُ العربيّةُ مِنْ هذه الفرصةِ؟ أم أنَّها ستضيُّعها، وتبقى خارجَ التَّاريخ؟ خارج التَّاريخ بالمعنى الَّذي عبَّر عنه الدّكتور فوزي منصور وفصَّله في كتابه «خروج العرب من التَّاريخ» الصَّادر في مطلع تسعينيَّات القرن الماضي.
برأيي، الأكثر تأهيلاً الآن، على المستوى العربيّ، للاستفادة من هذا الوضع الدَّوليّ الماثل، هو قوى المقاومة في لبنان وفلسطين وسوريا، وكذلك ما تمور به الشّعوبُ العربيّةُ وتُضمِرُهُ من احتمالاتٍ قويَّةٍ للتَّغيير. ونأمل أن لا يضيع هؤلاء أيضاً هذه الفرصة.
في العقود الماضية، كان بابُ التَّاريخِ مسدوداً بصخرةِ الأحاديَّةِ القطبيّةِ الثَّقيلةِ، والمأمولُ الآن أن يفضي تكريسُ نظام الأقطابِ الدَّوليَّةِ المتعدِّدةِ إلى إعادةِ فتحِهِ على وسعِه.
* مساهمة الكاتب في النَّدوة الَّتي أقامتها جمعيَّة الصَّداقة الأردنيّة الرُّوسيَّة في عمَّان، مساء يوم الأحد الماضي (20 مارس 2022).
< بقلم: سعود قبيلات