جسد خطاب جلالة الملك بمناسبة الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء قطيعة حقيقية على صعيد التعاطي الوطني مع قضية الوحدة الترابية، وكل المتابعين اتفقوا على إدراجه كخطاب مرجعي تحت هذا العنوان المركزي، أي القطيعة.
ولقد كانت هذه القطيعة بارزة أولا في لغة الخطاب ومعجمه، ذلك أنه تميز برفع إيقاع الصرامة تجاه النظام الجزائري، وتجاه القيادة المتنفذة في تيندوف، وتجاه مروجي أفكار وخطاب الانفصال، وأيضا تجاه المنتظم الدولي، وسمى جلالة الملك هذه المرة الأشياء بمسمياتها، حيث ذكر الجار الشرقي بالاسم وخاطب ساكنة تيندوف بلغة مباشرة تقوم على المسؤولية، وطرح عليها أسئلة استنكارية لم تخل من معطيات، وجدد عرض الخيار الوطني أمامها في مقابل الخيار المضلل، كما وضع مختلف الأطراف أمام مسؤوليتها.
القطيعة تجلت أيضا في مضمون الخطاب الملكي، وأساسا من خلال المبادرات والتدابير والمشاريع التنموية المعلن عنها ضمن مقتضيات النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية، فمختلف البرامج التي أعلن عنها ووقعت الاتفاقيات بشأن إنجازها ليست أفكارا طارئة أو وليدة اللحظة الاحتفالية، وإنما هي تجسد توصيات وخلاصات الدراسة التي سبق أن تولى إنجازها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي وعملت على تفاصيلها القطاعات الوزارية المعنية منذ مدة، ومن ثم هي جاءت اليوم ضمن بعد استراتيجي له امتداده الزمني الواضح، وتروم إعادة هيكلة جذرية لمحركات التنمية على المستوى الاقتصادي، وتفعيل أقطاب التميز على المستوى الاجتماعي، بالإضافة إلى أنها تقوي الربط الترابي للأقاليم الجنوبية مع باقي جهات المملكة ومع العمق الإفريقي للمغرب.
أي أن المغرب يعلن اليوم ولوج مرحلة الاستثمار المنتج وتقوية الاندماج وخلق فرص الشغل والثروات، وأيضا التأسيس لاقتصاد حديث داخل الأقاليم الجنوبية يقوم على حرية المنافسة والمبادرة الحرة، ويندرج ضمن احترام مقتضيات دولة القانون في المجال الاقتصادي، بالإضافة إلى منح صلاحيات وإمكانات للجهات والهيئات التمثيلية، وذلك ضمن ثنائية جدلية تقوم على بلورة وإعمال نموذج تنموي جديد ومتكامل، وأيضا تفعيل حكامة ترابية ناجعة تستحضر الجهوية الموسعة ومشاركة الساكنة المحلية في تدبير شؤونها بواسطة منتخبين جرى التصويت عليهم.
القطيعة هنا تعني إذن بداية زمن جديد، حيث أن زمنا آخرا طوي إلى الأبد بعد أن تم بلوغ النضج، ولم يعد مقبولا اليوم مواصلة التساهل مع الفساد أو مع الريع والامتيازات المجانية، كما لم يعد مقبولا الاستمرار في التساهل مع “الفساد مقابل الولاء”.
ولم تبرز القطيعة في الخطاب الملكي فقط في العلاقة مع تيندوف والجزائر، أو في اللغة وفي المضمون البرنامجي الذي كشف عنه، وإنما كانت واضحة أيضا في العلاقة مع المسعى الديبلوماسي لإيجاد حل نهائي لهذا النزاع المفتعل.
لقد كان جلالة الملك واضحا وصارما في التشديد على أن المغرب لم يعد مستعدا لتقديم أي تنازل جديد، وبأن أقصى ما يمكن تقديمه هو مقترح الحكم الذاتي، أي أن خطاب العيون اليوم أعلن طَي زمن دولي انتهى وأسس لزمن جديد يرتكز إلى كون المغرب موجود في صحرائه والصحراء في مغربها، ونبه العالم برمته إلى أن المملكة أعطت طيلة سنوات فرصا عديدة للحل الأممي، لكنها اليوم، وبرغم استمرار انفتاحها على ذلك واحترامها لالتزاماتها الدولية بهذا الخصوص، فهي تعلن وضع نقطة النهاية لتصور سائد بهذا الشأن وتطالب الجميع أن يتحمل مسؤوليته.
لقد وضع جلالة الملك إذن معركة المغرب من أجل وحدته الترابية في سياق جديد، وهذا يفرض اليوم تعبئة كل الجهود الوطنية لإنجاز وتنفيذ المخطط التنموي في آجاله، والحرص الجماعي على إنجاح الدينامية العامة الجديدة، بالإضافة إلى أن هذه المرحلة تفرض، أكثر من أي وقت مضى، تمتين الجبهة الوطنية الداخلية وتقوية المنجز التنموي، الاجتماعي والاقتصادي، على صعيد البلاد كلها وصيانة مسارنا الديمقراطي العام بلا أي تراجع أو انتكاسة، بالإضافة إلى إضفاء طبيعة هجومية وفعالة على سلوكنا الديبلوماسي.
القطيعة يجب أن تشمل كل هذه الواجهات أيضا، لأن ذلك من شأنه تعزيز مصداقية موقفنا الوطني وجديته.
إلى العمل…
[email protected]