اللغة كما هو معروف هي نظام من العلامات والرموز المخزونة في ذهن منشئها، إذ أن الحدس اللغوي للمتكلم هو وحده المعيار المقبول، كما يرى جان كوهن(1)، وهذا يعني أنها “فاعلية إنسانية تهدف إلى توصيل الأفكار والانفعالات والرغبات بوساطة نسق معروف من الرموز المولدة إراديا أو مقصديا، والمفردة وحدها لا تمتلك كيانا مستقلا في معناها منقطعة عن الكلمات الأخرى”(2).
وبذات الواسطة (أعني لغة الكتابة) سعت المرأة العربية للتعبير عن ذاتها تجاه الآخر لا سيما حين يمارس ذلك (الآخر) سلطة القمع أو التهميش أو حين يمارس الحظر لكل ما هو مُباح أو مقبول، ولما كانت الكتابة هي تعبير عن الروح صار الأمر صعبا أو مستحيلا التخلي عنها، لا سيما إذا كانت الكتابة ـــ عموما والشعر خصوصا ــ مخرجا خطيرا وغامضا من مخرجات الروح، وينتمي لها انتماء صميميا، يمنحه فرادة واستثناء(3)، وتصبح العلاقة بين الشعر والروح جدلية حيث تُـوصف: “إنً نشاط الروح هو الكلمة ذاتها”(4).
وتظل العلاقة بين الأنثى الشاعرة وبين القمع الذكوري ملتبسة يشوبها الغموض في كثير من الأحيان مهما سعى أحد الطرفين أنْ يتحرر من الآخر، ومهما سعى الآخر أن يدعي أنه قد فتح أبواب الحرية على مصراعيها للأنثى لتمارس تأكيد هويتها الإنسانية من خلال الكلمة.
وصارت تلك العلاقة بين الطرفين تمثل علاقة المركز بالهامش، المركز الرجولي والهامش الأنثوي، ومن تم سعت الشاعرة العربية في العصر الحديث إلى كسر جدار المركز وتحطيمه من أجل الوصول إلى علاقة متوازنة بين الطرفين لا يسودهما الاستبداد أو العنف، ولعل الشاعرة العراقية نازك الملائكة، هي أولى من سعت “في خلق لغة أنثى خاصة لم تعرفها الشعرية العربية من قبل، وحظيت وقتها بمساندة السياب في إظهار مركزية ذكورية مهمشة تقدم الأنموذج الذكوري ضعيفا متهالكا مُنهيا بذلك عصرا شعريا طويلا قائما على معاني الفحولة والرجولة والذكورة، غلًفت هذه الشعرية بغشاء وهمي حجب حس الأنثى وأقصاه وقمع صوتها في مارثون الكتابة الذي انتمى فيه المنطق الذكوري انتماء مطلقا إلى مركزيته”( 4 ).
ومن هنا سعت الشاعرة العربية المعاصرة إلى عدم تمكين الآخر من ذاتها، وحاولت أن تقدم ذاتا شجاعة غير مبالية بذلك القمع الذكوري لأن المرأة العربية “تنتظم في سلسلة علاقات ثقافية وجسدية ونفسية مع العالم من جهة ومع ذاتها من جهة ومع ذاتها من جهة أخرى”(5)..
ويمكننا في هذا السبيل معاينة قصيدة الشاعرة المغربية كريمة نور عيساوي، الموسومة بـ “توقفي عن الكتابة”، بوصفها نصا شعريا جديدا يضاف إلى نصوصها السابقة التي توجد في طيات دواوينها الشعرية؛ القصيدة من ديوان “وأنت تكتبني آخر الأسفار” الصادر عن مؤسسة مقاربات سنة 2021، فاس، وعلى الرغم من بساطة اللغة الشعرية ــ التي اتصفت بها هذه القصيدة التي يمكن أن تضاف إلى المنجز الشعري النسوي في المغرب العربي ــ يمكن القول إنً الشاعرة كريمة نور عيساوي تمكنت من إعلان تمردها على القمع الذي يمارسه الآخر القامع، وأعلنت إنهاء الشراكة بين ذاتها والآخر، وهي شراكة بدت غير صالحة للاستمرار في ظل هيمنة الآخر وسعيه الحثيث إلى إلغاء ذاتها.
يحقق عنوان القصيدة فعل (الأمر) الذي يخرج إلى الأمر، في جملة شعرية تبدو مهيمنة على أجزاء القصيدة من خلال فولها:
توقفي عن الكتابة
أصدرَ الأمرَ
توقفي عن الكتابة
هكذا سُطر في اللوحِ
يحقق فعل الأمر(توقفي) الذي بناه الآمر على صيغة (تفعًل)، ثم أسنده إلى ياء المخاطبة الدالة على الأنثى، من أجل تأكيد هيمنة الآخر وسلطته على الشاعرة من دون مبررات تُــذكر في هذا الصدد. ولعل مزاج الآخر القامع هو الذي جعله يتحكم بكل شيء حتى في (قول الكلمة).
يحقق فعل الأمر (توقفي) مع فعل النهي (لا تكتبي) الذي ورد أربع مرات في صدر كل مقطع من مقاطع القصيدة، وكلاهما يدلان أو يمثلان دلالة الإقصاء والتهميش والقمع. والنهي يمثل طلب الكف عن الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام، وله صيغة واحدة هي المضارع المسبوق بــ (لا الناهية)، وفيه دلالة القوة والتسلط لأنه صادر من ذات آمرة إلى ذات مأمورة، وحين يتعدى فعل النهي موجباته الضرورية له ليحرم ما هو مباح أو مشروع أفاد الحظر والتحريم على الفور، وهنا يبدأ الصراع بين طرفي المعادلة. ولا يقل فعل الأمر (توقفي) عن الدلالة السابقة، ويمكن القول هنا: إنً تحريم المباح لهو أمر في غاية التعسف والقمع.
تمثل جملة (توقفي عن الكتابة) ومطلع القصيدة ـــ الذي يمثل الآخر الناهي والآمر ــ حضورا استثنائيا بوصفه علامة تستدعي من القارئ الاتصال بها والتواصل معها لأنها تريد أن تحجب النجاح الذي حققته الذات الشاعرة من خلال فعل الكتابة. وتحصل المواجهة بين الآخر الذي يمثل القمع وبين الذات الشاعرة المقموعة. وهي مواجهة تدل على تمسك كل طرف بما يريد غير أن الطرف الأول لا يقدم المبررات للتوقف عن الكتابة.
سعت الشاعرة ــ منذ مطلع القصيدة ــ إلى مواجهة الآخر الذي سعى جاهدا إلى إلغاء ذات الشاعرة الأمر بالتوقف عن الكتابة الشعرية التي تمثل كينونتها وهويتها وميلادها، لذا تحاول تعديل مسارات الصراع بين الطرفين (الآخر الآمر الناهي) و(الذات المأمورة) من خلال استعطاف القارئ بأنها أصبحت بين خيارين هما: القبول أو الرفض والبقاء أو المحو، حيث تقول:
والحروف ترفرف على وجه الماء
تتراشق بين القبول والرفض
بين مــن يكتبها ومن يحميها من دون إشارة أو اعتذار
تأخذ الشاعرة المقموعة والآخر القامع مساحة واسعة من القصيدة وذلك من خلال تبني كل منهما وجهة نظره، فالفعل (لا تكتبي) يتصدر المقاطع الأربعة من القصيدة، ويظل مفتوحا على القراءة والـتأويل، ولا يحتاج إلى تبرير سوى أن يكرره في كل موقف، ويكفي أن الشاعرة تعرف ما عليها فعله، وهو التوقف عن الكتابة.
تستند الجملة الشعرية في المقطع الأول إلى تشبيه حروف الشعر أو حروف الكتابة بالطيور عن طريق الاستعارة المكنية في قولها (الحروف ترفرف على وجه الماء….) في إشارة أن الأمر يصعب تقبله في أي حال من الأحوال.
تفضح الشاعرة الآخر من خلال كشف دلالة فعل النهي (لا تكتبي)، وذلك في قولها:
لا تكتبي
قيد لوى لساني وأفقده النطق
تلك القاصمة العاصمة من العود
مشطت وجهي من دون أن تلمسه
هي جمرة تستريح على طرف اللسان
يصيرني رمادا يذريني وأنا أحمله
لا تكتبي…
كلمة…. هيضت مواجعي فيما كتبته… وأكتبه
حروفي… سجيتي أتوسدها…. أسوقها… أركبها…
حروفي مرآتي تقرأني دون عيون…
يقف الطرفان بمواجهة أحدهما للآخر، وتستثمر الشاعرة لغتها الشعرية في فضح نوايا الآخر باستعمال تقنية الفراغ… أو ما يسمى بالحذف الذي يجعل الجملة الشعرية مفتوحة أمـــام القارئ للتأويل، وإذا كان الفعل (لا تكتبي) يتحول إلى كلمة هيضت المواجع عند الشاعرة، فإنً حروفها الشعرية هي الأخرى تصبح ملاذا وتأريخا لها، ولا يمكن محو التاريخ بكلمة.
وكلاهما يمارس اللعبة (لعبة الفراغ) ذاتها في هذا المقطع والمقطع الذي يليه، حيث يحتشد الفراغ هنا من خلال عملية التنقيط (…….)، لأن “الفراغ الكتابي هو حذف مؤسلب مقصود، والحذف صمت، والصمت أعلى درجات الإفصاحية في اللغة العليا، وهو صنو الصوت والصورة”(6).
وللقارئ أن يتأول ذلك المحذوف أو المسكوت عنه الذي لم تفصح عنه الشاعرة، في ممارسة تأويلية تدل على الصوت المكبوت في داخلها، في حاضر بصري يدل على غائب ذهني لديها. والفراغ هنا يشكل إيقونة تنهض بالاستعداد لعملية التأويل القرائي في القصيدة.
تشتغل منظومة الأفعال: (كتبته، أكتبه، أتوسد، أسوق، أركب، قبلته أو ترفضه، تقرآني، تحيكني، تخبرني، تذوب، تعصرني، وغيرها) على دلالة واحدة هي تماهي الذات الشاعرة بأحرف القصيدة، وهي أفعال تعبر عن مدى الفاجعة التي حلت بالشاعرة في مواجهة القمع من الآخر الذي يبدو أنها غير قادرة على مواجهته. وكلاهما – القصيدة والشاعرة – وجهان لفعل واحد.
لقد فجر الفعل (لا تكتبي) لهيب الشعر لدى الذات الشاعرة، وسواء أكانت جملة (لا تكتبي)، صادرة من جهة فردية أو اجتماعية أو أيدولوجية؛ فإنها تظل ذاتا قامعة لكل ما يمكن أن يفضح الآخر، ويبدو أن الشاعرة تمارس مع القارئ لعبة الإخفاء من أول القصيدة، لأنها لم تفصح عن هوية (الذات الناهية الآمرة) ليظل التصور مفتوحا على مصراعيه.
وتصبح القصيدة عند كريمة نور عيساوي حصانا تمتطيه متى تشاء، تدنيها من الجماهير وتقصي خصمها من النفوس، لا فقصيدة تدني وتقصي، ولا تعرف حدودا فهي عابرة للفضاء وللقارات والوديان والجبال والسهول، هي سر سعادة الشعراء الأحرار الذين لم يهادنوا يوما ولم يبيعوا الكلمة بثمن، لأنها لا تباع وذلك قولها: “ما كانت حروفي يوما كبش محرقة… أو كبش فـداء”… وليس أدل على تماهي الذات الأنثى (الشاعرة) بالقصيدة من قولها:
حروفي تحرسني من دون جند على الباب
وتحكيني أنشودة في ملحمة الوداع الأخير
ولعل في هذا المقطع ما يدل على هوية (الآخر القامع) الذي اختار أن يتوارى خلف الأبواب المغلقة تحرسه الجنود من أحرف القصيدة التي ستظل (حكاية) يتناقلها الرواة على مر الزمن.
* باحث وأكاديمي ـ كلية الآداب جامعة ذي قار/ العراق
هوامش وإحالات:
1 ــ الكلام السامي، جان كوهن، ترجمة محمد الولي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت 2013، ص 70.
2 ـ فضاءات النقد الثقافي من النص إلى الخطاب، الدكتور سمير الخليل، دار تموز للطباعة والنشر، دمشق، ط1، 2014، ص 269.
3 ــ الأفكار والأسلوب، أ . ف . تشيتشرين، ترجمة د. حياة شرارة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ص43 .
4 ــ المغامرة الجمالية للنص الشعري، د. محمد صابر عبيد، منشورات عالم الكتب، الأردن، ط1، 2008، ص 181.
5 ــ المصدر نفسه: 181.
6 ــ العلامة البصرية والبنى الرامزة، د. عباس محمد رضا، ط1، 2012، منشورات دار تموز، دمشق، ص 68.
بقلم: د. عبد الحسن علي المهلهل