تعيش تونس توترا سياسيا تلفه الكثير من مخاطر العودة إلى نقطة الصفر، ويزداد الوضع حدة جراء ما تعانيه البلاد مع تفشي الوباء وتداعياته، وأيضا حجم الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي يئن تحت وطأتها الشعب منذ مدة.
كل هذا يجعل أصدقاء تونس اليوم يتمنون ألا تندحر البلاد نحو العنف والمجهول.
ليس من الوارد هنا تقديم أي دروس للشعب التونسي العريق، ولكن الوضع هناك يستحق القراءة والتأمل والتضامن.
منذ التحول الذي شهدته البلاد ورحيل نظام زين العابدين بنعلي، بقيت تعاني إلى اليوم من غياب الثقة بين أطراف العملية السياسية الداخلية، وافتقرت إلى التوافق السياسي الوطني الضروري في مثل هذه المراحل الانتقالية الدقيقة والصعبة.
من المستحيل النجاح في بناء مقومات الدولة وترسيخ الديمقراطية وإشعاع الاستقرار في غياب قواعد للتوافق بين الفاعلين، وليس ممكنا تحقيق هذه التطلعات فقط اعتمادا على الشعارات ومنابر الخطابات، أو في ظل الإصرار على مواقف حدية وعدم السعي إلى إحداث التقاربات اللازمة.
الثقة والتوافق عنصران جوهريان لم يتحققا في التجربة السياسية التونسية، ويمكن قراءة المآلات من خلالهما كذلك.
من المؤكد أن التحول السياسي الذي وقع في البلاد اصطدم بلوبيات تشكل بنية راسخة في الدولة والمجتمع تمسك بمصالحها الريعية وتدافع عنها بقوة، وفي المقابل لم تنجح القيادات المتعاقبة في السنوات الأخيرة في إرساء آليات مواجهة ذلك أو إحداث بدائل عملية وناجعة على الأرض، والنتيجة أن الاختلالات برزت جوهرية على مستوى منظومات تصريف شؤون الدولة، وتمكين الإدارة وحركة الاقتصاد من السير العادي، وبالتالي تركت المساحات فارغة للوبيات وأجهزة الفساد والتعطيل كي تنتصر، وأن تتسبب في فرملة مختلف ديناميات الحياة في البلد.
وصلة بما سبق، استطاعت هذه الفرملة كذلك أن تنمي الاحتقان الشعبي، وزاد تكلس المسؤولين الجدد وحيرتهم في تفاقم الغضب وسط الشعب، وهو ما كان من السهل استغلاله لتبادل الضربات بين الأطراف السياسية واللوبيات الإدارية، ما أدى إلى جعل السلم الاجتماعي مهددا، والمخاطر تلف البلاد برمتها.
إن التجربة التونسية ومآلاتها، والتي نأمل ألا تفضي إلى مآسي، تؤكد لنا أولا ضرورة الحرص على الثقة والتوافق بين الفاعلين والقوى الأساسية في البلاد، وتؤكد لنا ثانيا أهمية تفادي الاصطفافات الحدية بين الأطراف، وتؤكد لنا ثالثا الحاجة، في مثل هذه الأزمنة الانتقالية، إلى الخروج من منطق المنبرية الخطابية نحو العمل بمنطق مسؤولي الدولة، والتفكير بحجم الوطن، والحرص على تمتين أسس التدبير والحكامة، ثم إنها تؤكد لنا كذلك ضرورة قيام الدولة على مؤسسات حقيقية، وعلى فصل السلط وتكاملها، وضمن ذلك على مؤسسة تحكيمية يعود إليها الجميع، وهو الأمر الغائب اليوم في الحالة التونسية، ويعكسه الجدل حول غياب المحكمة الدستورية، والاختلاف حول السند الدستوري الذي اعتمده رئيس الجمهورية لإقرار الوضع السياسي الجديد.
ما تشهده تونس يستحق القراءة من لدن عدد من بلدان المنطقة والاستفادة منه، ونأمل للشعب التونسي العريق والطيب استقرار الأوضاع وتحقيق السلم الاجتماعي الداخلي ومواصلة بناء دولته الديمقراطية الحديثة.
نعرف أن تونس مختلفة عن محيطها الإقليمي من حيث تاريخها العريق، وأيضا من حيث نخبتها السياسية والفكرية والثقافية والمدنية، ومن حيث ثراء تجربتها السياسية والنضالية، وكل هذا يعتبر رافعات تدعم الأمل في أن تنتصر تونس على أزمتها السياسية الحالية.
<محتات الرقاص