تاريخ العلاقات المغربية الإفريقية.. الجذور والامتدادات-الحلقة5-

من الواضح، وحسب ما يشير إليه أحد الدارسين، في أنه لا يمكن أن نفهم تصور مغاربة القرن الماضي لموقع بلدهم على وجه الأرض، إذا لم نعرف بالتدقيق اتجاه الطرق المتبعة في الأسفار، وتلك الطرق هي في الحقيقة منذ قرون، أرضية وسماوية في آن واحد، طرق المراحل ومنازل النجوم. من هنا يمكن فهم اعتماد المغرب عاصمتين، تعتبران رأسي طريقين اثنين: طريق يربط المغرب بمنزل الوحي، وطلب العلم، والحج. وطريق ثان يربطه بالعمق الإفريقي. الأول جنوبي شرقي، والثاني جنوبي غربي، الأول ينتهي إلى فاس، والثاني إلى مراكش.
فالخريطة كما ترى اليوم، وكما فرضتها الصناعة الخارطوغرافية الغربية تطمس هذه الحقيقة، لهذا يجب أن نضع الخريطة موضع وجهة أخرى، كانت عادية في القرون السالفة. وجهة تحمل في الحقيقة مغزى تاريخنا العميق. فالخريطة الحالية تطمس بروز وأصالة الطريق الثاني، المنغرس في العمق الإفريقي. جاعلة منه طريقا متفرعا عن الأول، في حين أنه مواز له، مضاه له في التأثير على سكان المغرب واقتصادياته.
في هذه الدراسة البحثية، يحاول الدكتور المؤرخ محمد براص إبراز قيمة الجغرافية التاريخية في رصد تاريخ العلاقات بين الدول وخاصة بالنسبة للمغرب، الذي تؤطره أواصر قوية بمحيطه الإفريقي.

مرحلة الحكم المرينية.. سلطان مالي كانكو موسى يوجه سفارة إلى فاس عام 1331م ليقوم من جانبه السلطان المرينية أبا الحسن ببعث سفارة مرينية مماثلة، عين على رأسها كاتب الديوان أبا طالب محمد بن أبي مدين

الواضح أن العصر المريني تميز بتحولات كبرى على المستوى الداخلي بإفريقيا. فقد عرفت المنطقة صعود عدد من القوى المحلية، واتساع مجال التنافس والصراع في ما بينها. حيث قامت دولة مالي في جهة الشرق والغرب من نهر النيجر، وقد استندت على تجانس عنصري وروحي. وكان أغلب قاطنيها من قبائل السراكولي. كما شكل الدين الإسلامي وفق المذهب المالكي القوة الكبرى لهذه الدولة. فكانت القوة النافذة فيها لرجال الدين. انضمت إلهيا كل مملكة بلاد مسينا، التي كانت على الوثنية. وبلاد التكرور، التي حافظت حتى ذلك الوقت على ولائها للمرابطين. ولم يستقم الحكم بشكل نهائي لهذه الدولة إلا في عهد الملك كانكو موسى ( 1307-1332م).

لقد كانت لهذا الملك صلات وثيقة بالحكام المرينيين، حيث وجه السلطان كانكو موسى سفارة إلى فاس مع ترجمان من الملثمين الصنهاجيين في العام 1331م، كانت شاهدة على عمق الصلاة والروابط ما بين الحاكمين. بل إن السلطان المريني أبا الحسن، قام من جانبه ببعث سفارة مرينية مماثلة، عين على رأسها كاتب الديوان أبا طالب محمد بن أبي مدين، تحدث عن فحواها ابن خلدون في كتاب العبر قائلا :”… وتوغل ذلك الركاب في القفر إلى بلد مالي بعد الجهد وطول المشقة، فأحسن مبرتهم وأعظم موصلهم وكرم وفادتهم وتقلبهم، وعادوا إلى مرسلهم في وفد من كبار مالي”. كما أوفدت سفارة أخرى على السلطان أبي الحسن من مالي، أرسلها الملك سليمان (منسى معناها الملك)، حملت التهنئة بفتح تونس. وقد وصلت هذه السفارة إلى فاس في فبراير 1351م”. وكان يوم وفادتهم يوما مشهودا، جلس لهم السلطان ببرج الذهب مجلس العرض…، وحضر الوفد بين يدي السلطان وأدوا رسالتهم، بتأكيد الود والمخالصة …، واستقر الوفد في إيالة السلطان وتحت جرايته، وهلك السلطان قبل انصرافهم، فوصلهم القائم من بعده أبو عنان، وانصرفوا إلى مراكش، وأجازوا منها إلى ذوي حسان عرب سوس، من المعقل المتصلين ببلادهم، ولحقوا من هنالك بسلطانهم”.
لقد شهدت الفترة المرينية بشكل عام، قيام علاقات قوية بين المغرب ومالي. امتازت بتبادل السفارات، وحسن الجوار بين دولتين احترمت كل واحدة منهما سيادة الأخرى على أراضيها. مع تميز المرحلة بسعي الطرفين المغربي والإفريقي الحثيث لتأمين طرق التجارة وكبح جماح الأعراب. وتحقيق انصهار ما بين رجالات القطرين. كما سارت التجارة قدما بين سجلماسة وتومبوكتو وغاو. وازدهرت الزراعة في بعض الجهات، وذلك بفضل التطور العلمي الذي عرفته بعض مدارس عواصم المغرب. هذا فضلا عن استقرار عدد من الموظفين كالأئمة والمؤذنين في أكبر المدن السودانية، ووجد طلبة مغاربة قدموا للدراسة بعاصمة مالي، وكانوا يقطنون بحي خاص ببني جلدتهم حسب ما ذكره ابن بطوطة في رحلته (قام ابن بطوطة برحلته إلى مالي في عهد الملك سليمان (1341-1360م).
كما تفنن المهندسون المغاربة من أصل أندلسي في بناء القصور، ناقلين خبرتهم إلى تلك الأصقاع. حيث بنى المهندس الأندلسي أبو إسحاق الطوجين قصر الملك، ودارا ومسجدا في غاو. وقد كانت على النمط المغربي الجنوبي مع تأثيرات سودانية.
أما فيما يخص مملكة سونغاي، والتي تميزت مرحلتها بكثرة الصراعات، إذ لم يهدأ الوضع بها إلا في المرحة الثالثة. والتي ابتدأت في النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي. بعد أن استمرت تحت الحكم المغربي. مع الاحتفاظ بمظاهر رمزية للحكم التقليدي. فكان أن تم الدفع في عهد الحاكم الحاج محمد، في اتجاه تدعيم أسس الدولة، وإعطاء قيمة لمجال تبادل العلماء. حيث اشتهرت أسماء بارزة في هذا العهد، من أمثال الإمام المغيلي التواتي، وسيدي يحيى التدليسي. بل إن المدن كانت عامرة بأهل المغرب من مراكش ودرعة. وكانت اللغة العربية قد أخذت مكانتها كلغة للعلم، وكلغة رسمية أيضا. فأصبحت دولة سونغاي بفضل هذا التواصل تمثل ومضة حضارية ومركزا للإشعاع الفكري في إفريقيا الغربية. غير أن هذا المعطى سوف ينقلب بشكل واضح، نتيجة الصراعات الداخلية لهذه الدولة. والتي سوف تظهر على الواجهة. وصف حالها قبيل مجيء الحلمة السعدية مؤرخ سودانيي عايش المرحلة، وهو القاضي محمد كعت (ت. 1593م) حيث قال : ” فصار الأمن خوفا والنعمة عذابا وحسرة، والعافية بلاء وشدة. وأخذ الناس يأكل بعضهم بعضا في جميع الأمكنة طولا وعرضا، بالإغارة والحرابة على الأموال والنفوس والرقاب، فعم الفساد، وانتشر وبالغ واشتهر…”.
ذلك كان وضع سنغاي قبيل مقدم السعديين، بل الأمر انطبق على عدد من الممالك من قبيل كل من مسينا، وكانم وبورنو وكانط. فكيف سيصبح الوضع بعد قدوم السعديين إلى الحكم بالمغرب، وما هي طبيعة نظرتهم للشأن الإفريقي ؟

<إعداد: محمد حجيوي

Related posts

Top