أصر حزب التقدم والاشتراكية، من خلال المذكرة الأولية التي تقدم بها أمام اللجنة الاستشارية المكلفة بمراجعة الدستور، على الابتعاد عن المزايدات الرائجة هذه الأيام، وعن أسلوب العودة المستمرة للغة القطائع، وبدل ذلك أكد على أن ورش الإصلاح الدستوري يندرج في سياق نسق تاريخي حافل بالتراكمات، انطلق منذ الاستقلال وقطع أشواطا تأثرت إلى حد كبير بالمسار التاريخي الذي عاشته بلادنا لأزيد من خمسة عقود، ما أوصلنا اليوم إلى الاقتناع بكون تنظيمنا الدستوري لم يعد يواكب مشروعنا المجتمعي الديمقراطي الحداثي، وبالتالي الحاجة إلى دستور يستقي قيمته من قدرته على الاستجابة الموضوعية للحاجيات المعبر عنها من لدن المجتمع في هذه المرحلة.
وصلة بما سبق، فإن الحزب بلور مواقفه ومقترحاته ارتكازا إلى تراكماته بهذا الخصوص، حيث إن المطلب الدستوري بقي دائما حاضرا في وثائقه وأدبياته، على الأقل منذ مؤتمره الوطني الأول (1975) وإلى غاية مؤتمره السادس (2001)، ثم السابع (2006) والثامن (2010)، مرورا بالندوة الوطنية التي نظمها الحزب عام 2008، بالإضافة طبعا إلى إنصاته المتفاعل والذكي لتعبيرات المشهد السياسي والمجتمعي في الفترة الأخيرة، وكل هذا جعل الحزب جاهزا لإبداء الرأي والتعبير عن الموقف، لأنه لم يقطر به سقف السياسة صبيحة أمس.
إن إثارة هذا الأمر هنا، هو فقط للتأكيد على أن حزبا يقارب عمره السبعين عاما، ويعود له فضل إدخال عديد مفاهيم حقوقية وديمقراطية إلى الإدراك التداولي والسياسي الوطني، يمتلك منذ عقود رؤية واضحة لحاضر البلاد ومستقبلها، والوضوح نفسه، هو الذي يدفعه اليوم إلى التأكيد على أن الدستور الجديد، الذي يجري الحوار حول مضامينه اليوم، يتجاوز سؤال الخيار بين التعديل التقني وصياغة قانون أسمى للدولة في حلة جديدة، وإنما يتعلق الأمر بـ(إصلاح دستوري) بكل معانيه.
المسألة الثانية التي تفرض نفسها هنا أيضا تتعلق بكثير كلام يحيط بنا حول أن مقترحات الأحزاب أقل سقفا من خطاب الملك، أو أن شباب 20 فبراير أكثر جرأة من الفاعلين السياسيين أو أن مقترحات الأحزاب غابت عنها الدقة و(هندسة) الصياغات…، والأجدر كان هو الانتباه إلى وجود لجنة مكلفة بالصياغة الفقهية والقانونية، وأن لجنة سياسية للمتابعة والتشاور سيتم إطلاعها باستمرار على تطور مراحل الإعداد، وأن الأحزاب اليوم مطالبة بتقديم مقترحات سياسية عامة ومذكرات أولية وعند الاقتضاء يمكن تقديم مذكرات إضافية، وأن التحدي اليوم ليس في رفع سقوف الهتاف، إنما في إعمال بعد النظر، وتمكين بلادنا وشعبنا من وثيقة دستورية تكون نتاج توافق وطني واسع، ويكون مضمونها ذا منحى تقدمي، ويفتح الباب لجيل جديد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
الشجاعة توجد اليوم هنا، أي في تحديد طبيعة المرحلة التاريخية والوعي بموازين القوى وطبيعتها واستحضار السياق التاريخي والسياسي والمجتمعي للمغرب، وبلورة رؤية استشرافية للمستقبل تقوم على الديمقراطية والحاثة وعلى تقوية مداخل الإصلاح.