قمت بنشر هذا المقال بجريدة الرهان الآخر في 30 شتنبر 2001 خلال الفترة التي كان فيها النقاش محتدا حول مشروع مدونة الشغل قبل التوافق عليها، و لكون بعض الجوانب من هذا النقاش ما زالت مطروحة أعيد نشره من جديد.
سُنة التطور تشمل جميع مجالات الحياة بما في ذلك القوانين، و قانون الشغل بالمغرب مر من عدة مراحل منذ 1913 إلى الآن، حيث صدرت عدة ظهائر ومراسيم، كما تكرست من خلال الممارسة اليومية بين أطراف الإنتاج عدة أعراف حلت مكان بعض القوانين التي لوحظ أنها لم تعد مسايرة للواقع، و كما أشرنا إلى ذلك في المقال السابق “لماذا تأخر التوافق حول مشروع مدونة الشغل” الذي نشر في العدد الثاني من جريدة الرهان الآخر بتاريخ 23 غشت 2001، فإننا لو كنا قد انطلقنا منذ بداية مناقشتنا لمشاريع مدونة الشغل من هاته القوانين والأعراف قصد أخذ ما هو صالح، وتعديل ما يتطلب التعديل بعد مقارنتها مع الاتفاقيات الدولية للشغل ومع القوانين الجاري بها العمل في الدول المماثلة دون موقف مسبق، لَكُنَّا قد ربحنا الكثير من الوقت، و يتبين ذلك من خلال طبيعة النقط الخلافية التي ما زالت محل نقاش دون أن يتم التوصل إلى توافق حولها، فكل هاته النقط يتضمنها قانون الشغل الحالي، وبعضها وجدت لها حلول من خلال الممارسة اليومية حيث أصبحت بمثابة أعراف معتمدة، هذا إذا استثنينا بعض التراجعات الخطيرة التي أصبحت تسود الساحة الاجتماعية خلال السنوات الأخيرة، و قد تقدم لي أن أشرت إلى ذلك بمناسبة تنظيم يوم الاستشارة الوطنية حول مشروع المدونة من طرف ك٫د٫ش في 14 يوليوز 2001 بالدار البيضاء، وبالرجوع إلى قائمة النقط الخلافية وطبيعتها وبالاحتكام إلى القانون وانطلاقا من منطق الحفاظ على الحقوق المكتسبة والأعراف والاتفاقيات الدولية للشغل نجد أن هته النقط لا ترقى إلى أن تكون خلافية إذا ابتعدنا عن منطق العداء للقانون وللعمل النقابي برفع شعار “الدفاع عن المرونة في الشغل”، إذ لا داعي لطرحه لأن هته القوانين والأعراف تضمن حقوق الجميع.
< فمثلا عندما تطالب النقابات باعتبار قانون الشغل كحد أدنى يطبق على جميع المأجورين بأن تضيف تعديلا ينص على إدخال سائر الأجراء بالإدارات العمومية والجماعات المحلية الذين لا يطبق عليهم اي قانون، ألا يعتبر هذا التعديل موضوعيا وضروريا, وهل يعقل أن يظل عدد كبير من الأجراء وخاصة الأعوان في الإدارات العمومية والجماعات المحلية دون أن يتمتعوا بالحد الأدنى الذي يتضمنه قانون الشغل على الأقل بما في ذلك الحد الأدنى للأجور وحق الترسيم في أجل أقصاه سنة بدل 7 سنوات، و حذف السلالم من 1 إلى 4، فأين نحن من تقريب الفوارق بين الأجور الدنيا والعليا للموظفين. إن الحكومة معنية بأن تحدد موقفها من هاته النقطة قبل عرض مشروع المدونة على البرلمان.
< وعندما تطالب النقابات بأن تحدد فترة الاختبار في 14 يوما بالنسبة للعمال العاديين وشهر بالنسبة للأطر المتوسطة و 3 أشهر بالنسبة للأطر العليا وفق ما ينص عليه النظام النموذجي الصادر سنة 1948, ودون أن نخلط بين الاختبار والتكوين الذي يمكن أن يخضع له العمال قبل التحاقهم بالعمل، من خلال المعاهد المختصة أو التكوين المستمر الذي ينبغي أن يتوفر في جميع المؤسسات، ألا يعد هذا تعديلا موضوعيا ؟
< و هل عندما تطالب النقابات بأن يكون الأصل في عقد الشغل مستمرا وأن يكون الاستثناء عند ازدياد الطلب أو عند فتح مقاولة جديدة بإبرام عقود الشغل المحددة المدة على أن يتم الترسيم في أجل أقصاه سنة، ومعنى هذا أن يكون العقد المؤقت للعمل المؤقت مع العلم أن هنالك الحالة التي يتم فيها الاكتفاء بزيادة الساعات الإضافية في حدود لا يتم معها إرهاق العمال, غير أن ذلك يتطلب معه الحفاظ على مرتكزيْن أساسيين : الحفاظ على الطاقة التشغيلية وحماية المقاولة، ألا يعد هذا تعديلا موضوعيا ؟ .
ـ وعندما تطالب النقابات بحذف عرقلة حرية العمل من قائمة الأخطاء الجسيمة، خاصة وكما نعلم أن هته المادة كانت توجد في الفصل السادس من النظام النموذجي غير أنه طوال فترة الحياة المهنية بالمغرب لم يسبق أن أعطي لها التأويل الذي أراد المشغلون أن يعطوه لها بمناسبة مناقشة مشروع المدونة، لأن المقصود بها كما كان جارياً به العمل العرقلة الفردية وليست العرقلة الجماعية التي تعني منع حق العمل أثناء الإضراب مع حذف المادة 288 من القانون الجنائي, وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار العديد من المضايقات التي أصبح يتعرض لها العمال أثناء الإضراب في السنوات الأخيرة، ألا يعتبر هذا التعديل ضروريا وموضوعيا؟
< وعندما تطالب النقابات في حالة طلب التسريح الجزئي أو الكلي للعمال (إغلاق المؤسسة) بأن تتم موافقة عامل الإقليم بعد اتخاذ التدابير ومراجعة الملف المقدم من طرف المشغل وأن يتم عقد اللجنة الإقليمية بدون أن يعتبر سكوت عامل الإقليم بمثابة موافقة، ألا يعتبر هذا التعديل ضروريا وموضوعيا؟
< وعندما تطالب النقابات بممارسة الحقوق النقابية داخل المقاولة فإنها تريد أن تدخل في القانون ما هو مكرس على مستوى الواقع، لأن المؤسسات التي توجد بها النقابات تمارس المكاتب النقابية داخلها حقوقها النقابية بكيفية عادية وطبيعية وعندما تمنع من ذلك فإن الوضع يتحول إلى نزاع، وعندما أعطى الدستور المغربي الحق في ممارسة العمل النقابي, وعندما صدر ظهير 16 يوليوز 1957 بشأن النقابات المهنية فإن ذلك لم يكن يعني ممارسة هته الحقوق خارج المقاولات “وإلا فإن ذلك يعتبر منعا ضمنيا، أولا يعتبر هذا التعديل ضروريا وموضوعيا؟
< وعندما تطالب النقابات بالتأكيد على إلزامية المفاوضات الجماعية والاتفاقيات الجماعية بكيفية دورية تخضع لضوابط وتواريخ متفق عليها, وبأن يعطى الحق للمكاتب النقابية بإبرام الاتفاقيات الجماعية بدل مندوبي العمال، لأن الواقع يؤكد بأن مندوبي العمال عندما تكون النقابة غير موجودة لا يتمكنون من القيام بدورهم على الوجه المطلوب نظرا للمضايقات التي يتعرضون لها دون أن تتوفر لهم الحماية, ونفس الشيء بالنسبة لأعضاء اللجان الثنائية، و عندما تقدم النقابات التعديلات في هته النقطة فإنها تهدف من ذلك بأن تتوفر لها الشروط لكي تمارس حقها الدستوري في التأطير والتوجيه حماية للعمال وللإنتاج، أولا يعتبر هذا التعديل ضروريا وموضوعيا؟
< وعندما تطالب النقابات باستفادة الأجراء من حق التكوين المستمر وأن يكون التكوين هو مصدر الترقية وأن يحدد ذلك بشروط وكيفية مضبوطة, فإن ذلك سيكون في مصلحة المقاولة والعمال.
ـ< عندما تطالب النقابات بتحري الموضوعية عند تحديد التعويض عن الطرد التعسفي وعن فصل الأجراء عن العمل مع مراعاة أوضاعهم الاجتماعية دون الاهتمام فقط بوضعية المقاولة مع إهمال الطرف الاجتماعي, فهل هذا اقتراح غير موضوعي؟
<وهل عندما تطالب النقابات بتعزيز حق المكاتب النقابية لمساندة العمال قبل تعرضهم للطرد بالقيام بدورها للدفاع عن العمال, مما قد يمكن من الوصول إلى حلول لنزاعات الشغل قبل عرضها على مفتشية الشغل أو السلطات, فهل هذا اقتراح غير موضوعي؟
< وعندما تطالب النقابات بمراجعة الحد الأدنى للأجور بكيفية دورية مع مراعاة غلاء المعيشة وفقا لما جاء به ظهير 31 أكتوبر 1959 , فهل يعد هذا اقتراحاً غير موضوعي؟
< وعندما تطالب النقابات بتحديد دور مقاولات التشغيل المؤقت قصد حماية حقوق العمال والحفاظ على الطاقة التشغيلية خاصة أمام الفوضى التي أصبحنا نراها الآن والتي تضرب ما تبقى من الطاقة التشغيلية وتساهم في توسيع عدم الاستقرار، وبالمناسبة أعيد التأكيد على ضرورة إعادة النظر في عقد التكوين من أجل الاندماج المهني الذي لا مبرر لاستمرار العمل به انطلاقا مما أكدته التجربة, هل هذا التعديل غير موضوعي؟
< وعندما تطالب النقابات بالرفع من الجزاءات الناتجة عن مخالفات عدم تطبيق القانون، فإن ذلك في مصلحة الدفاع عن القانون, فهل اقتراحها هذا غير موضوعي؟
< ومن خلال استعراضنا لطبيعة التعديلات التي تقدمت بها النقابات والتي تصل إلى حوالي 60 تعديلا بين ما هو جزئي وما هو جوهري وفق الأمثلة التي أشرنا إليها, يتبين لنا بأن النقابات عند مناقشتها لمشروع المدونة توجد في موقف دفاعي فقط على بعض الحقوق التي تضمنها القانون والأعراف, وأن الدفاع عن “المرونة” لا مبرر له, لأننا عند معالجتنا لقانون الشغل ينبغي أن تكون لنا نظرة شمولية وأن ننظر للطبقة العاملة كفاعل في الإنتاج وكذلك إلى النقابات بأنها أداة للتقدم وللتنمية, وأقف عند الخلاصة التي أشرت إليها في المقال السابق, وهي ضرورة الاهتمام بالأوضاع الاجتماعية للعمال والرفع من الطاقة التشغيلية ودعم المقاولة.
< وعندما نؤكد على الجودة والإنتاجية مع مراعاة معدل التكلفة فإننا نكون قد أخذنا بعين الاعتبار الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية, ومعنى هذا أن الطبقة العاملة تعرف ما هو الدور المطلوب منها في الظرف الراهن, وأن العرقلة الحقيقية للاستثمار تتمثل في التضييق على حق الانتماء النقابي وعدم احترام القانون وضرب الحقوق المكتسبة وبالتالي تهميش الطبقة العاملة كطرف أساسي في التقدم والتنمية.
> بقلم: عبد الرحيم الرماح