“خريطة طريق” أم بكائية عند “حائط المظلومية”

بدا الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ضعيفاً منهكاً على منصة الجمعية العامة… اختنق بكلماته أكثر من مرة، واجتاحت الخشية بعضاً منا من أن يخفق في إتمام تلاوة كلماته… هذا في الجانب الشخصي لرئيس يحكم شعباً 70 بالمائة منه شباب… الصورة جاءت مؤلمة وجارحة، نقولها بتجرد وبمعزل عن الخلاف مع الرئيس أو الخلاف عليه، أطال الله في عمره وأسبغ عليه ثوب الصحة والعافية.
أما بالمعنى السياسي، فالخطاب لم يكن أكثر “شباباً” أو حيوية… اكتفى الرئيس بدور “المحامي” وقدم مرافعة ناجحة بامتياز عن “المظلومية” الفلسطينية، وحاجج واشنطن وتل أبيب في مزاعمهما بشأن مختلف أوجه الملف الفلسطيني الشائك والمعقد… لقد كان موفقاً بضعف، تحدث عن “هزيمة” السلام، ولم يقترح سوى “السلام المهزوم” خياراً لشعبه… غصن الزيتون الذي ذهب به إلى نيويورك، كان “ذابلاً”، بلا أوراق، أما بندقية سلفه الراحل، فقد أهال عباس عليها التراب، واقترح تركها للصدأ يتآكلها.
لا أعرف كم مرة شدد فيها في خطابه القصير، على أية حال، على نبذ العنف والتنديد به، والتأكيد على خيار التفاوض ومسار السلام، مع أنه كان الأبلغ من بين نظرائه في شرح مأزق السلام وسقوط خيار المفاوضات واندحار الشرعية الدولية وتآكل هيبتها ودورها وصدقيتها… طريقها مسدود، هكذا أقنعنا عباس في مرافعته البليغة، قبل أن يعود محاولاً إقناعنا بأن لا بديل عن الفشل وانسداد الأفق، سوى المزيد من الفشل وانسداد الآفاق.
بدا عاطفياً متوسلاً، يستحث العاجزين عن فعل أي شيء، فعل المزيد من “اللا شيء”… بدا مصراً على تجريب المجرب.. خاطب العالم من موقع الضعف والسكينة، في عالم لا يعترف بالضعفاء والمساكين والمستكينين… اكتفى بتقديم صورة الفلسطيني “الضحية”، التي تتلقى الضربات يمنة ويسرة، بانتظار المزيد منها… لكأننا قوم لا حول لهم ولا قوة… لم يترك مطرحاً لأية خيارات أو بدائل أخرى… خطابه، وبرغم نبرته المستمسكة بالحقوق غير القابلة للمساومة كما قال، خلّف المزيد من اليأس وفقدان الأمل والإحباط في صفوف شعبه.
ومن سوء حظ عباس، أن صورة “الرجل الضعيف” جرى تظهيرها على نحو مفرط من المبالغة، بمصادفة لا أدري إن كانت مرتبة ومقصودة أم لا؟ … بعده بدقائق قلائل، اعتلى نتنياهو المنبر، لم يأبه أن كذب في كل جملة قالها… بدا قوياً ومفعماً، قدم استعراضاً بصرياً… هدد وتوعد… تحدى العالم والجمعية العامة… بدا ممثلاُ هوليودياً بامتياز… لوح بحروب لا تبقي ولا تذر، لم يكن اعتذارياً أبداً… تخلى عن “صورة اليهودي/ ضحية الهولوكوست” ليبرز صورة اليهودي المقاتل دفاعاً عن حق يدعيه، ومستعد لنقل الحرب إلى طهران وبغداد ودمشق وبيروت، إن لزم الأمر.
لا مقارنة بين وضع عباس ووضعية نتنياهو، ولكن القائد، أي قائد، وأياً كانت ظروفه، لا يكتفي بالمرافعة ولا تشخيص أبعاد الأزمة وكشف جوانب المعاناة… القائد يقترح أفقاً جديداً لشعبه… القائد لا يحصر نفسه بخيار واحد، معروفة نهاياته وخواتيمه سلفاً… عباس اكتفى بدور المحامي الذي يتجلى في عرض آثار وتداعيات جريمة الاغتصاب التي تعرضت له موكلته… بيد أنه لم يطالب حتى بالقصاص العادل من الجاني، ولم يلجأ إلى أقدم مبادئ الشرعية الدولية منذ زمن حمورابي: العين بالعين والسن بالسن.
ظهر الفلسطينيون كضحايا مكسوري الظهر ومهيضي الجناح.. عُزّل ليس من السلاح فحسب، بل ومن إرادة المقاومة والانتصار… عجزة يجلسون في مقاعد النظّار بانتظار أن يعطف عليهم العالم وأن يمنّ عليهم سيّد البيت الأبيض بدولة يقررون فيها مصيرهم… ليس في خطابه كلمة مقاومة واحدة، استبدلها بالصبر، والصبر ليس مفتاح الفرج دائماً، الصبر قد يكون بوابة الخنوع والاستسلام، وما الذي يريده نتنياهو هذه الأيام، غير “صبر الفلسطينيين” على الأنياب الفولاذية لجرافات الاستيطان ودبابات الجيش؟
وُعِدنا بخطاب “مزلزل”، يسيّل “الأدرينالين” في عروق الإسرائيليين وحماتهم… فإذا به خطاب “مظلومية” وحفلة تأبين لقضية فلسطين وشعبها… لكأننا أمام متدين ورع أمام القبر المقدس أو عند حائط المبكى أو على مقربة من قبر الرسول الأعظم… لكأننا أمام مسعى جدي لمحو الذاكرة الجمعية للفلسطيني المقاوم، الذي خاض الحروب والمعارك وفجّر الانتفاضات طوال مائة عام من الكفاح المجيد في سبيل الحرية والاستقلال… هذا الخطاب لا يشبه روح الفلسطيني الوثّابة والثائرة على الضيم والجور… هذا الخطاب يصلح لناسك متعبد، يقضي حياته في الدعاء والتسبيح.. بيد أنه أبعد ما يكون عن “خريطة طريق” للشعب الفلسطيني صوب المستقبل.
إلى أن وصل الخطاب إلى “محطة الانقسام”، هنا تغيرت النبرة، واستعيد الشباب المفقود وتحررت الإرادة المقيّدة، وباتت المفردات جازمة وقاطعة، الآن واليوم، لن نتحمل المسؤولية… الأن ومن هنا، تنتهي الفرصة الأخيرة لحماس… أحزنني فتح هذا الملف من على منبر الأمم المتحدة… فقدت المرافعة كثيراً من بريقها وحججها المنطقية… بدت هذه الفقرة ثقباً أسود في “دراما الشعب الفلسطيني وتغريبته” كما وردت على لسان رئيسه.
كنت حملت بالأمس، على حماس لإقدامها على عقد اجتماع “مفبرك”، صبياني أو مشبوه، لما أسمته مجلساً تشريعيا في غزة لنزع شرعية عباس وهو في طريقه للأمم المتحدة… حملت على دلالة الخطوة وتوقيتها… المشاعر ذاتها اجتاحتني وأنا أستمع لهذه الفقرة من خطاب عباس… كم بلغ التردي بالحالة الفلسطينية، وكم بلغ انعدام المسؤولية الوطنية في الأداء والخطاب والإجراءات، السابق منها واللاحق… لكأننا في عهد ممالك الأندلس، وقد نبك غداً مثل النساء ملكاً أضعناه، ولم نحافظ عليه اليوم مثل الرجال… مع الاعتذار لكل نساء العالم، وبالأخص لنساء فلسطين الماجدات.

< بقلم: عريب الرنتاوي *

* مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية

Related posts

Top