دور المؤسسات المالية في تحقيق التنمية المستدامة

يحظى موضوع التنمية المستدامة باهتمام متزايد من قبل المؤسسات المالية عبر العالم، من خلال حرصها على التأكد من احترام المؤسسات الاقتصادية لمجموعة من المعايير ذات الطابع الاجتماعي والبيئي، بالتّوازي مع الأهداف الرّبحية، قصد ضمان التوازن بين الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للمؤسسة أو المشروع الممول.
وبذلك أصبحت سياسات المؤسسات المالية في مجال تمويل المشاريع تهتم بشكل خاص بالاستثمار المسؤول اجتماعيا حيث صارت هذه الأخيرة تهتم أكثر من أي وقت مضى بتمويل المشاريع التي تهدف، وبالتوازي مع البحث عن الربح المالي، إلى ضمان احترام مجموعة من المعايير غير المالية ذات الطابع الاجتماعي أو البيئي، على غرار حسن التصرف في الموارد البشرية والمحافظة على الموارد الطبيعية والمساهمة في برامج تنموية إنسانية وخيرية مقابل استبعاد كل نشاط أو قطاع لا يأخذ البعد الأخلاقي أو الاجتماعي أو البيئي بعين الاعتبار.
ونتولى في ما يلي تقديم المعايير المعتمدة من قبل المؤسسات المالية في مجال التنمية المستدامة والمقاربات التي تعتمدها تلكم المؤسسات في مجال التمويل المسؤول.
> معايير المؤسسات الماليّة في مجال التنمية المستدامة:
تعتمد المؤسسات الماليّة معايير متعلقة بحوكمة المؤسسات، بالإضافة إلى معايير ذات طابع اجتماعي وأخرى ذات طابع بيئي.

المعايير المتعلقة بالحوكمة:
تتعلق هذه المعايير بالأساس بطرق التسيير والرقابة بالمؤسسة وبمختلف العلاقات بين هياكل التسيير والمساهمين ومختلف أصحاب المصالح.
وتقوم المؤسسات الماليّة في إطار تمويل المشاريع بتحليل حسن التسيير وجودة العلاقات القائمة بين المؤسسة والمساهمين خصوصا فيما يتعلق بالشفافيّة المالية ومكافحة الفساد…
> المعايير الاجتماعية:
تتعلق هذه المعايير بالأساس بتأثير نشاط المؤسسة كمشروع استثماري على عديد الأطراف، على غرار العمال والحرفاء والمزودين والمجتمع المدني وذلك في ما يتعلق بحقوق الإنسان وبالمعايير الدولية للشغل وبمكافحة الفساد…
وحيث تزايد اهتمام المؤسسات المالية بالمسائل المتعلقة بالتنوع وقوّة الاختلاف في ميدان العمل بالإضافة إلى الاعتبارات المتعلقة بحماية المستهلك وبتأثير المشروع الاستثماري على صحة و رفاهيّة العاملين به وعلى المجتمع بصفة عامّة.
> المعايير البيئية:
تتعلق هذه المعايير بالأساس بالتّأثير المباشر أو غير المباشر لنشاط المشروع الاستثماري على البيئة: فمع تزايد الانشغال بتهديدات التغيّر المناخي واستنزاف الموارد، أصبح عدد كبير من صناديق الاستثمار على وعي بالحاجة إلى إدراج عوامل الاستدامة في خياراتهم الاستثمارية. وتتعلق أهم المسائل التي صارت تؤخذ بعين الاعتبار في هذا المجال، بالتغيّر المناخي والتّصرف في النفايات الخطرة والانبعاثات الغازية. وبذلك، أصبحت المؤسسات الماليّة تدرج هذه المسائل ضمن أوكد اهتماماتها لدى اتخاذها لقرارات التمويل.

مقاربات المؤسسات المالية في مجال التمويل المسؤول

لضمان التمويل المسؤول الذي يساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، تعتمد المؤسسات المالية عددا من المقاربات من أهمّها المقاربة الموضوعية والمقاربة متعدّدة القطاعات التي ترمي بالأساس إلى الاستثمار في مشاريع وقطاعات تستجيب لشروط وأهداف المسؤولية المجتمعيّة مقابل استبعاد عدد من الأنشطة والمشاريع المخالفة لتلك الشروط والأهداف.
> اختيار مواضيع نشاط محددة:
يتعلق الأمر وفق هذه المقاربة باختيار المؤسسات المالية لمواضيع نشاط محدّدة وقطاعات معيّنة ذات مردوديّة عالية من الناحيتين البيئيّة والاجتماعية، لتتولى تمويلها. وكأمثلة لمواضيع النّشاط التي تستأثر باهتمام المؤسسات المالية لمردوديّتها العالية في المجال البيئي، يمكن أن نذكر الأنشطة المتعلقة بالاقتصاد في الطاقة والطاقات المتجدّدة والاقتصاد في المياه ومعالجة وتثمين النفايات. أما في المجال الاجتماعي، نذكر تمويل المشاريع المتعلقة بإسداء خدمات للفئات الضعيفة والمشاريع المتعلقة بالصحة والتّعليم ومكافحة الفقر.
> اختيار المؤسّسات الملتزمة بمجموعة محددة من المعايير:
تقوم المؤسسات المالية وفق هذه المقاربة باختيار المؤسّسات التي يتأكد التزامها بمجموعة محددة من المعايير البيئيّة والاجتماعية والحوكمة، بصرف النظر عن قطاعات نشاطها. وبذلك يتمّ تمويل المؤسّسات التي يثبت تبنّيها لأفضل الممارسات في المجالين الاجتماعي والبيئي على غرار حسن التصرف في الموارد البشرية والاقتصاد في الطاقة والمحافظة على المحيط، والتي تلتزم كذلك بالمبادئ المتعلقة بحوكمة المؤسسات.
> استبعاد نشاطات أو شركات معينة:
وفقا لهذه المقاربة، تتولى المؤسسات المالية استبعاد نشاطات أو شركات معينة والامتناع عن تمويلها، اعتمادًا على معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة المؤسسات. وبذلك تتجنب الصناديق الاستثمارية تمويل قطاعات اقتصادية لا تأخذ البعد الأخلاقي أو البيئي بعين الاعتبار. وكأمثلة للقطاعات التي يتم استبعاد تمويلها وفقا لهذه المقاربة نجد الكحوليات والتبغ والإباحيّة والمقامرة والسّلاح والطاقة النووية.
وتجدر الإشارة إلى أن المقاربات الثلاث المذكورة أعلاه هي على سبيل الذكر فحسب باعتبارها الأكثر اعتمادا من قبل المؤسسات المالية وهي مقاربات متكاملة ويمكن في الواقع دمجها.
التقييم المسؤول

لم يعد تقييم نجاح المؤسسة مقتصرا على مدى ربحيتها ومركزها المالي بقدر ما أصبح يعتمد على مدى تمكنها من تحقيق التوازن بين الأبعاد الثلاثة للتنمية المستدامة، أي العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي وحماية البيئة، كل ذلك من خلال اعتماد مبادئ التنمية المستدامة في مختلف الأوجه المتعلقة بأنشطتها وعلاقاتها بمختلف الأطراف التي يمكن أن تتأثر من تلكم الأنشطة.
وفي هذا الإطار أصبح التمويل الذي تقترحه المؤسسات المالية يركز في جانب منه على التنمية المستدامة حيث تطور تمويل المشاريع الإيكولوجية والمجددة بالإضافة إلى تطور القروض التضامنية والاستثمار المسؤول اجتماعيا والذي يقوم بالأساس على فكرة تمويل المشاريع والمؤسسات التي لا تقتصر أهدافها على تحقيق الربح المادي فحسب بل تتجاوزه نحو أخذ المقتضيات الاجتماعية والبيئية والأخلاقية بعين الاعتبار.

(*) باحث في مجال المسؤولية المجتمعية والتنمية المستدامة

كريم بن حميدة

Related posts

Top