عبر ديوانه الباكورة والذي انتقى له عتبة ” انشطارات الذات” الصادر حديثا عن مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، طبعة أولى2019 بفاس، والذي يقع في أربعة وتسعين صفحة من القطع المتوسط، بمقدّمة من توقيع الدكتور محمد كنوني من المغرب، يطالعنا الشاعر عبد العزيز الطوالي، المنحدر من قرية ” العرجان” ضواحي مدينة أوطاط الحاج، عمق المغرب، بمتوالية نصوص مطوّلة تراوح بين النفسين التفعيلي والنثري، مستفّزا في طرف التلقّي جملة من البؤر الملتحمة دلاليا بمفهوم الانتماء وطقوسيات تفجيره، وتلوين بياضات المنجز بتيماته، هذا الحسّ المتوهج لدى ذات تكابد انشطاراتها، وتمتحن انكساراتها، داخل حدود البينية في القول الشعري، بحيث نجدها مزدانة بمواصفات التسامي والتعالي عن فخاخ السهل العاري المكشوف، المقيّدة بنمطية النظم وروتينه، كما أنها في الوقت ذاته ترتقي، دونما الإيغال في سقف المبهم الذي قد يشوّه القصيدة ويُفقدها جاذبيتها ويجعلها مجرّد بوق لتمريرات سفسطائية مبطّنة بالطلاسم.
نقرأ له، في موضع متقدّم من الديوان، الإلتماعة التالية:
[ وعرفت منذ البداية
أنك غاز
غازيا آت للتو من مسام المحاره
فكم يكفيك من القربان؟
للطهاره
وهل يكفيك الإغتسال؟
وهل تكفيك الكفّاره؟ ] (1).
قصائد منسوجة بحنكة واشتغال على تقنية السهل الممتنع، فلا هي مصرّحة على نحو تقريري أميل إلى الخطاب السوقي اليباس الذي لا روح للشعرية فيه، ولا هي إضمار يزهد المتلقي في متاهاته من الخطى الأولى، ويعاف مغامرة الإبحار في خباياه ومعانيه.
كفذلكة للمنجز، يقول الدكتور محمد كنوني: “انشطار الذات بوح ذاتي تنشطر بمقتضاه الذات بأشكال متعددة، قد تكون أضواء هاربة، أو أحلاما عابرة، أو عوالم واقعية، أو مسارات تقفز من تفاصيل الذاكرة.
وينجذب هذا التعدد برؤاه ومواقفه ليجد وحدته في الذات رغم انشطاراتها…في صوغ جمالي يؤطر التجربة ضمن جنس الشعر”.
في مناسبة أخرى، نقتبس لشاعرنا هذه الومضة، فيما يشبه الهمس، محاولا العزف على وتر المزاوجة مابين الخرق التركيبي والدلالي، كضرب من إرسالية تعالج فوضوية الراهن وكيف أنها تغذي فقط اغتراب روح الكائن، يقول:
[نعبد الوثن .. وبسرور نجترّ الوهن
مواطنون نحن
نعبر من ضلالة إلى ضلالة
نقدّس صمتنا
نصفّق لنا
فما أحبّ إلينا أن نكون حثالة
وما أحرصهم على إطعامنا
العلم بالتقسيط .. الحرية بالتنقيط
وبالجملة الجهالة](2).
لن أزيد على القول أنها نبوءة، بتنا نعيش فصولها الآن، وعلى مضض، ولو أنه تمّ الالتفات إلى مثيلاتها المترع قاموسنا الشعري بمضامينها، لتداركنا العديد من الثغرات التي تسومنا بها الممارسات الإيديولوجية العرجاء، لكنه الإعماء المقصود يفوّت على أوطاننا الكثير من الفرص في التنمية وتطوير مجمل الحقول الحياتية، و يحول دون تحقيق مكتسبات جمة سواء سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا.
وما حال التعليم في مجمل بلاد العرب، إلاّ علامة واشية بإهدار قيمة الشعر والاستخفاف بنبوءات وجنون سدنته.
قصائد الديوان مكتوبة ما بين سنة 2003 و2016، في أماكن مختلفة: اوطاط الحاج، جرف الملحة ، فاس، ولو أن معظم تلك النصوص تمّ تدوينه بشكل لاهث ومتسارع، في حّيز زمني يقارب العام (2005/2006).
مع ذلك يظل خطاب الديوان في كليته، مدبّجا بالدفق الاستشرافي، ومغدقا برؤاه الموسوعية، ومكذبا ثقافة الحدود.
في موقع آخر يقول:
[ هذا الظلام المعصور في الأكواب المسودّه
يولّد بداخلي الرهب
رهب الأشياء العادية
ربما أصبحت شيئا عدميا
ربما أضعف الأشياء
أوجد من أجل الأشياء
لأني لم أكن ولن أكون شيئا كالأشياء
قبل/ بعد حدوث الأشياء
شيء يحترق بداخلي
عندما يستعصي علي النطق بعبارات سليمة
أبحث عن الحقيقة وبعدما أشك أمزّق الحقيقة](3).
وإذن..لا أقسى وأمر من هذه المشاعر التي يقترحها سجن الغريب في بيته، سجن الروح أقصد، وقصّ أجنحتها.
حتّى الحرية نسبية ههنا، ولها حدودها ومواسمها.
ما جدوى أن يستعبدنا البحث عن الحرية، مادامت روح الإيثار معطّلة ومغيّبة فينا، هو بحث أناني، بلا شك، سرعان ما تسقط عنه أقنعته، ويبطل زيفه، لنجد ذواتنا مرة أخرى، في دوامة بحث عدمي تذيّله لعنة الشكّ.
شكّ الشعر وهو يعمّق اغترابنا الوجودي، ويلزمنا بالانطلاق من نقطة الصفر مجددا، في دورة فلكية سرمدية، بلا جدوى، وهكذا.
هامش:
(1)نص “هكذا تكلّمت فاس”، صفحة 17.
(2)نص ” مواطنون نحن” ، صفحة 28/29.
(3)نص”على الصمت يحيى الليل” صفحة 82.
< بقلم: أحمد الشيخاوي