حين مراجعة المجاميع القصصية المغربية وكذا الأجنبية التي صدرت على امتداد عدة عقود، سواء للرواد أو للكتاب الجدد على حد سواء، من النادر أن نعثر على نموذج منها يتناول الموضوع الذي له ارتباط بشهر رمضان.
هل معنى هذا أن الشهر الكريم لا يوحي للأدباء بأي شيء؟
الملاحظة الأخرى التي يمكن تسجيلها ونحن بصدد إعداد سلسلة من النصوص القصصية للنشر في هذا الفضاء الرمضاني، هو أن أغلب هذه النصوص تتطرق إلى يوم بعينه من رمضان، ألا وهو يوم السابع والعشرين، أو ليلة القدر بالأحرى، وهذا ليس مفاجئا، على اعتبار ما تحبل به هذه الليلة من رموز وإيحاءات.
إننا نفتقر إلى أنطولوجيات في مختلف فنون الأدب، تخص موضوعات بعينها. إن عملية جمع النصوص الخاصة برمضان، بقدر ما هي متعبة؛ فهي كذلك ممتعة ومفيدة، ولا شك أن مكتبتنا بحاجة إلى هذا النوع من الأنطولوجيات التي تتيح لنا الإحاطة الشاملة بالنصوص التي تتناول موضوعا أو قضية بذاتها، بأصوات متعددة.
زمان يا رمضان
<بقلم: سرى الناصر
لم أكن أتوقع أن اليوم الرمضاني العادي في حياتي وأنا طفلة ستكون ذكراه مصدر الدفء في حياتي عندما أكبر. أن تلك اللحظة التي كنت أدخل فيها إلى المطبخ بينما أمي تعد الصحون والسماء تمطر فأقف على الشباك أنتظر أذان المغرب وأشغل نفسي خلالها بكتابة اسمي على قطرات الماء التي خلًفها رذاذ المطر ستبقى عالقة في مخيلتي إلى يومنا هذا…وأن لحظة صب الحساء والماء لكل شخص في العائلة قبل دقائق من موعد الأذان ستكون ذكرى جميلة عندما أكبر وأبتعد عنهم، وصوت المقرئ على قناة عمّان يقرأ بعضاً من آيات القرآن سيبقى صداه في مخيلتي، فقبل أذان المغرب بنصف ساعة كان أبي يغير محطة التلفاز ليضع على محطة عمان ليسمع القرآن والأذان من بعده، فكنا لا نتجرأ أن نتابع أي برنامج في ذلك الوقت، كنت أفرح بصوت المقرئ وهو يقول صدق الله العظيم، لأن هذا إعلان أنه سيؤذن للمغرب بعد أقل من دقيقة، فترانا نسرع لفتح الباب لنتأكد أنه أذن في حارتنا أيضاً.
لن أنسى وجه أمي الأبيض وهو محمر من حرارة الطبخ وهي ترتشف الماء عندما ينادي الإمام بـ “الله أكبر”، ونداء أبي لنرسل الطعام للحارس مشجّعاً بأن من تذهب معه أو ترسله له ستكسب أجراً من الله ورضى منه.
كان أبي يجلب الحمص وخبز رمضان والتمر الهندي والقطايف يومياً، وأحيانا يعطي المهمة لأختي الكبيرة، كنت أرافقه أحيانا، لنقف في طابور محل القطايف ونأخذ دورنا.
أذكر أنني بدأت بممارسة عبادة الصيام منذ كان عمري ست سنوات، كنت أتفاخر أمام رفيقاتي في المدرسة وأبناء وبنات عمي بعدد الأيام التي صمتها، وكان جدي يعطيني عشرة قروش عن صيام العصفورة ونصف دينار عن صيام اليوم الكامل.
كنا نجتمع كثيرا للإفطار في بيت جدي، ويدق فينا الحماس لأن نسمع صوت المدفع الذي كان يضرب لإعلان ساعة الأذان، فيأخذنا عمي أحيانا إلى موقع المدفع لكي نراه ونرجع سريعا إلى البيت، وأخرج مع بنات عمي بعد الإفطار إلى الحارة لنشعل ” الفتيش” ونلعب “بالخريس”.
كنت أقيم الليل مع أمي في أواخر الشهر، وأطلب من الله كل ما أتمنى لي ولعائلتي ومن أحب.
أذكر تلك الورقة التي كانت تضعها أمي على الثلاجة وتدعونا لنكتب عليها ما نريده من طبخات كي لا تحتار وترضي الجميع.
وبالرغم أن رمضان هو شهر عبادة لكن طقوسه الاجتماعية في بلدنا مختلفة، فأنت ترى في هذا الشهر من لم ترهم منذ شهور، وتصبح أمك أرق في تعاملها معك وكأنها سعيدة جدا في صيامك، كان أبي هادئا جدا في رمضان، وكنا نحمد الله أنه ليس عصبيا كبعض الرجال..
أذكر تماما كيس الحلويات التي كنت أشتريها من الدكانة وأخبئها في خزانة ملابسي، أظن أنني كنت أحب ساعة الإفطار كي أنتهي من تناول الطعام بسرعة وآكل تلك “الاشياء الزاكية”.
كان أبي يجلب الحمص وخبز رمضان والتمر الهندي والقطايف يومياً، وأحيانا يعطي المهمة لأختي الكبيرة، كنت أرافقه أحيانا، لنقف في طابور محل القطايف ونأخذ دورنا، ومع أن أمي هي من كانت مسؤولة عن شراء حاجيات المنزل في الأيام الأخرى، لكن الوضع في أيام رمضان مختلف، فهي لا تحب الخروج بنهاراته، لذلك تراها تجلب الحاجيات الأساسية للشهر كله قبل بدايته، فلا يبقى إلا الحاجات اليومية الضرورية التي يتناولها أبي عند الحاجة. كنت أشعر بأن أمي تتباهى بأنها تبقى في المنزل شهرا كاملا لا تخرج وكأنها اعتكفت في منزلها لتطعمنا وتمارس عباداتها.
أذكر تلك الورقة التي كانت تضعها أمي على الثلاجة وتدعونا لنكتب عليها ما نريده من طبخات كي لا تحتار وترضي الجميع، كنت دائما أكتب ” كفتة بطحينة، مخشي، منسف، فتة دجاج، مقلوبة، أوزي، فاصوليا بيضا”. وإحدى إخواتي تكتب “بطاطا مهروسة” والأخرى “فاصوليا خضرا”، ولن أنسى صحون الطعام المتبادلة التي تراها تأتي وتذهب بين الجيران يوميا.
سفرة أمي الرمضانية منذ أن وعيت إلى الآن لا تتغير، فبجانب الطبق الرئيسي، هناك السمبسوك بالبطاطا والجبنة أو الخضروات، الحمص مع خبز رمضان الذي يباع في مخابز إربد أيام رمضان فقط.
كان أبي يحلف يوميا أنه لن يجلب الحمص مرة أخرى لأننا لا نأكل غيره، ثم يعود ليشتريه في اليوم التالي.. بالإضافة إلى الفتوش والشوربة الحمراء والتي يقال إنها فقط معروفة عند أهالي منطقة إربد والتي تطلق عليها أمي “شوربة أمهاتي”.. ولا ننسى شراب التمر الهندي الذي كان نقاش أهلي اليومي على سفرة رمضان: “اليوم أطيب من امبارح، من عند فوزي السلطي هاد؟”.
نحن عائلة سريعة جدا في تناول الطعام، فبالرغم من الوقت الطويل والجهد الذي تبذله أمي في تحضير الطعام والسفرة على أكمل وجه، تجدنا نحن نأكل ونشرب ونتعارك وننتهي من الطعام في عشر دقائق على الأكثر. كنت أتعمد أن أنهي طعامي أول واحدة كي أذهب وأحجز مكاني المفضل في غرفة الجلوس على الكنبة الأقرب إلى التلفاز. كنا نعتبر أن من يجلس عليها محظوظا ذلك اليوم، ونبقى نلاحقه بنظراتنا طوال السهرة حيث كنا متفقين أن من يحجزها أولا هو من سيبقى جالسا عليها طوال السهرة بشرط أن يقول كلمة محجوز إذا قام عنها، وإن لم يقل يذهب، مكانه لأول من يفطن لذلك السهو.
كنا نجتمع جميعنا لنحضر نفس المسلسل بعد الإفطار ونشرب القهوة السادة والتي تميز رائحة بيتنا خلال نهارات ومساءات رمضان إلى يومنا هذا.
أذكر بأن أمي كانت تنام على الكنبة بعد كل إفطار، وأستغرب حينها كيف تستطيع النوم بيننا ونحن نتكلّم ونشاهد التلفاز، كنت أقول لها أن تدخل إلى غرفتها وتنام لكنها ترفض، وأبي يحاول أن يخفض صوت التلفاز وأصواتنا لتنام. أصبحت أما وفهمت أن الأم عندما تكون مرهقة تنام، ولو كان هناك مزمار يقرع حولها.
كان للسحور قصة أخرى، فأغلبنا لم يكن يستيقظ ويجلس حول مائدة السحور، مما يضطر أبي بأن يحضر لغرفتنا ومعه إبريق ماء وكأس، وبخفة ظله المعهودة، كان عندما يوقظنا كي نشرب وإن حصل وشربت إحدانا الكأس كاملا يضحك ويقول: “زلطتيها بابا؟”. وإن استيقظنا لنتناول طعام السحور يبقى يلاطفنا ويمازحنا حتى ولو كانت أعيننا نصفها مغمضة.
< عبد العالي بركات