في رحيل السي عبد الله شقرون

فقد المشهد المسرحي والثقافي والإعلامي في المغرب، يوم الخميس 16 نونبر 2017 أحد أبرز أعلامه، الأستاذ عبد الله شقرون رحمه الله، الذي وافته المنية بمدينة الدار البيضاء عن عمر يناهز 91 سنة.

مسار عملاق لإنسان في منتهى التواضع

ولد الأستاذ عبد الله شقرون بتاريخ 14 مارس 1926 بمدينة سلا التي تلقى فيها تعليمه الأولي وهو يتيم الأبوين، في الكتاب (المسيد) حيث تعلم مبادئ اللغة العربية والفقه وحفظ القرآن.
بعد ذلك تدرج في المدرسة النظامية، انطلاقا من التعليم الابتدائي إلى الثانوي، ثم التعليم العالي لاحقا في معهد الدراسات العليا (مقر كلية الآداب بالرباط حاليا)، وحصل على الإجازة في الأدب العربي من كلية الآداب للجامعة الفرنسية بالجزائر، ثم دبلوم الإخراج الإذاعي والتلفزيوني من مدرسة هيئة الإذاعة والتلفزة الفرنسية بباريس. 
 
* رصيد تاريخي في التسيير الإداري

المرحوم عبد الله شقرون له رصيد هام في التسيير الإداري والتأطير داخل الإذاعة والتلفزة المغربية، منذ انطلاقها في بداية الستينيات، حيث جمع بنجاح بين الحس الإبداعي الفني المرهف وبين الكفاءة في التسيير الإداري الكفء، مما أكسبه صفة خبير دولي في الصوتيات والمرئيات، وفي مجال الملكية الفكرية وحقوق التأليف، ومستشار في التعاون الدولي متعدد الجوانب لدى منظمات إقليمية للإذاعة والتلفزة بإفريقيا والعالم العربي.
وقد تولى عدة مهام إعلامية ومناصب إدارية سامية:
منتج ومحرر ومخرج وصحفي في “راديو المغرب” بالرباط
رئيس قسم التمثيل العربي للإذاعة المغربية من سنة 1952 إلى سنة 1962
عضو اتحاد كتاب المغرب سنة 1961
مدير عام بالإذاعة والتلفزة
رئيس العلاقات الخارجية بالإذاعة والتلفزة
مستشار بوزارة الشؤون الثقافية
أمين عام لاتحاد إذاعات الدول العربية بتونس.
 
نشاط مسرحي متنوع وجهود متميزة وإصدرات متعددة

بدأ نشاطه المسرحي تأليفا واقتباسا وإخراجا ابتداء من سنة 1949، حيث أسس عدة فرق مسرحية، وبذل جهدا متميزا في مغربة الخطاب المسرحي لغة ومضمونا، علاوة على تميزه بتجربة “المسرح الإذاعي” و”المسرح التلفزيوني”،
وأنتج العديد من المقالات والدراسات والأبحاث الأدبية حول الأدب الشعبي وفن المسرح والممارسة الإذاعية، تشكل رصيدا يضم أزيد من 500 مسرحية وتمثيلية إذاعية وتلفزيونية باللغة العربية والدارجة المغربية. كما ترك للخزانة المغربية مجموعة هائلة وقيمة من المؤلفات والكتب المنشورة باللغتين العربية والفرنسية، تتجاوز الخمسين إصدارا، منها:
فن الإذاعة – 1957
شعراء على مسرح التلفزيون – 1983
مسرح في التلفزيون والإذاعة – 1984
حقوق المؤلف في الإذاعة والتلفزة – 1986
الشعر الملحون في الإذاعة – 1987
فجر المسرح العربي بالمغرب – 1988
حديث الإذاعة حول المسرح العربي – 1988
فجر المسرح العربي بالمغرب – 1988
حياة في المسرح (مذكرات، وثائق، ذكريات) – 1997
المجموعة الخضراء (نصوص مسرحية) – 2002
المجموعة الحمراء (نصوص مسرحية) – 2002
سنوات في كتابة المسرحيات والتمثيليات – 2009
حكاية خزانة شخصية
نشوة القلم في بدائع الأدب
طفولة وشباب على ضفتي أبي رقراق
رباعيات عبد الرحمان المجذوب عبر الأثير
مسرحية “طوق الحمامة”
دولة الشعر والشعراء على ضفتي أبي رقراق
الثقافة المسرحية
المسرح العربي… والمغرب
شهادات وإشادات.
وكان آخر كتاب صدر له سنة 2017 بعنوان “رفقاء … وأصدقاء في الثقافة … والإعلام”، تحدث فيه عن طائفة من رفقائه وأصدقائه في المهنة والعمل، ومنهم أعلام الفكر والأدب والشعر والفن، وأساتذة المسرح والدراما، وأعلام فن الملحون المغربي ووجهاء في الإعلام والإذاعة والتلفزة … وهي مناسبة جعلته يتذكر وجوها وكفاءات من مصر والكويت وتونس والسودان والأردن فضلا عن المغرب.
 
أستاذي عبد الله شقرون

كل مشاعر العرفان والتكريم لجهودكم الجليلة في إثراء المكتبة المغربية.. وكل تعابير التقدير لعنايتكم الدقيقة بتجميع ونشر نصوص مسرحيات مختارة من الإنتاج المغربي والعربي والعالمي.. وكل الإجلال لاهتمامكم المقتدر بحفظ الذاكرة المسرحية والتمثيلية المغربية..
 أخيرا أقول إن مكانتكم المتفردة لا تعوض.. وعطاؤكم المميز لن ينسى… وشكركم واجب علينا.. رحمكم الله..

بقلم: الطيب الدكالي

************

                       * شهادة الراحل محمد حسن الجندي في حق الرائد الأستاذ عبد الله شقرون

فيما يلي شهادة كان الفنان الراحل محمد حسن الجندي قد قدمها في حق الرائد عبد الله شقرون في لقاء دراسي، نظمته النقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية بتاريخ 14 يوليوز 2016 بالرباط، حول موضوع «هيكلة المكتب المغربي لحقوق المؤلفين ومستقبل حقوق المؤلفين والمؤدين الدراميين»، لقاء دراسي شكل مناسبة لتكريم الرائد عبد الله شقرون، بوصفه أحد مؤسسي الظاهرة الفنية الحديثة، في المسرح والموسيقى والإذاعة، وأيضا كمناضل قيدوم من أجل إرساء نظام وطني لحماية حقوق المبدعين.
وفي معرض شهادته نوه الفنان محمد حسن الجندي بمسار شخصية استثنائية طبعت بعطاءاتها الغزيرة مختلف مجالات الإبداع الفني في المغرب، وكان رائدا في اكتشاف المواهب التمثيلية والموسيقية والإعلامية وإغناء الخزانة الوطنية بالمؤلفات البحثية والإبداعية، فضلا عن مساره النضالي في مجال حماية حقوق المبدعين، كما عكس ذلك كتابه «معركة المغرب حوق حقوق المؤلف».

بسم الله الرحمان الرحيم
إذا كان للجُحودِ والنُكران إثمٌ يُوازي العُقوق، وإذا كان العقوق من أكبر الرذائل، فإن الاعتراف لذوِي الفضل بفضلهم يُعتبر أبهى وأسمى وقمة الفضائل.
وأبو جمال، ونبيلة، وكريم، أمد الله في عمره مع نعمة الصحة وتذوق المزيد من نكهة ثماره التي أينعت في أسرته الكبرى، وأزهرت بالحفذة في أسرته الصغرى، قد شمل فضله كُل مراحل التأسيس لظاهرة الفن الحديث في هذه المملكة المصونة بستر الله، منذ العُقود الأولى من القرن العشرين، إسوة ببعض الرواد الأشقاء، وسَبْقًا في مقدمة دول أخرى من الإخوة والأصدقاء. بالطبع لن يُمكنني المجال المُتاح لهذه المداخلة من أن أتحدث عن مرحلة النشأة والتكوين لمُعلمي، ولا عن ما قرأته وسمعته عنه، عِلمًا أن أستاذنا قد “طْرْقْ هَذْ المْسْمَارْ” بيراعه، وأصبحتْ بحمد الله كل الخزانات العامة والشخصية، تضم بين رُفوفها كُنوزه المُحَفِزَةَ، المُفقهة في شتى مجالات الإبداع، إلى جانب قراطيسِ وثائقهِ النادرة التي لا تكتمل حُجةٌ في مجال الإعلام في بلادنا بدونها. وكما علمني، فكل ما لم أقدر أن أدركه كله، احتميت بتقنية الكتابة، كي ألخص لُبَهُ وجُلَه، مُنطلقا من نظرتي الأولى سنة 1956، وأنا أزاحم زملائي فوق الركح، نتجاذب أطراف جزئيْ السِتارة، لنُكَوِن دائرة تلصُصٍ على الحضور داخل القاعة، ونترقب ولوج أول لجنة وطنية لاختيار أجود العروض المسرحية، وهي اللجنة التي كان يرأسها هو نَفْسُه. ورغم أن مجلة “المشاهد” التي كان يصدرها جاره وصديقه، قيدوم الصحفيين مصطفى العلوي، كانت قد خصصت قبل تلك الزيارة، روبرتاجا خاصا عن أبرز تحركات المُعلم من أجل فرض فرقة وطنية إذاعية، فإنني شعرت منذ ظهوره يتقدم أعضاء اللجنة داخل مسرح الكازينو بمراكش، شعرت وكأنني أراه لأول مرة: شابٌ، وسيمٌ، كثيف شعرِ رأسٍ لا يخضع لتسريحات الموضة، ولا يغريه ما في الحركة الفنية البوهيمية من فوضى. بعد عرض مسرحيتنا “هكذا قضت الأحوال” للكاتب اللبناني “عيسى سبا”، صعد بتواضعه الدائم، ودماثة خُلقه الملازم ليسمعنا كلمات الإعجاب والتنويه.
في ذلك اليوم عبرتُ له عن رغبتي الالتحاقَ بمدرسته، فلم يكن لا فظا ولا مُتعاليا. وحمسني ان أبعث له بطلب في الموضوع، ففعلت، وشاء الله أن أفلحت والتحقت.
اكتشفت أن حُسن حظي قادني لأكون تلميذَ أنجبِ طالبٍ في التعليم العالي، التحقَ بالإذاعة منذُ كان المُحتل يسميها “راديو ماروك”، ورغم حذر الأجنبي مع كل النجباء المغاربة في عصره، فإن المُعلم (الأستاذ عبد الله شقرون) كان يملك من رباطةِ الجأشِ، وعفةِ اللسانِ، وذكاء الاستفادة من المناخ العلمي والثقافي، ما يسر له مجال تأسيس نضالٍ في عقرِ الدار، عبرَ المقاومةِ بالتكوين والتحصيل، فكان أول مغربي يتخرج من مدرسة الإذاعة والتلفزيون الفرنسية في باريز. وهو أول من أوكل إليه العاملون في الإذاعة، تحرير مُلتمس شَكَلَ حدثا تاريخيا فارقا في نضال وكفاح الإعلاميين: فنانين، وصحفيين، وإداريين، وتقنيين، من أجل الحصول على قانون أساسي ضَمِن للعاملين اليوم في هذه المؤسسة الكبرى أهم حقوقهم. وكان الأستاذ عبد الله شقرون من أوائل المُناضلين في معركة المغرب حول حقوق المؤلف، ومن المؤسسين لمكتب جمعية المؤلفين، وسيوثق لكل حيثيات هذه التجربة، وكل ما يحيط بها من جزئيات في ما بعد في مرجعه النفيس “معركة المغرب حول حقوق المؤلف” ليُصبح اليوم استشاريا دوليا في الاتصال السمعي البصري، وخبيرا في قضايا حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.
كان الأستاذ شقرون من السباقين أيضا للاهتمام ببرامج الطفولة، ومن ذلك البستان، انتقى باقة شكلت ما سمي بالفرقة الوطنية للإذاعة. ثم وسع دائرة اهتماماته، فكان المكتشفَ الموفقَ عن جدارة واستحقاق. ومن أبرز هداياه للساحة الفنية ـ إضافة إلى العدد الهائل من أبرز نجوم الصف الأول من الرواد في فن التمثيل كالأساتذة عبد الرزاق حكم، أمينة رشيد، العربي الدُغمي، حبيبة المذكوري، حمادي عمور، حمادي التونسي، محمد أحمد الأزرق، محمد البصري، حميدو بنمسعود ـ قلت من هداياه أيضا: الملحن محمد بن عبد السلام الذي كتب له أبرز أعماله التي طَبَعتْ وِجْدَانَ الفترة. منها: “يا بنت المدينة”، “أش قضيتو يا الحساد”، “يا الخاطف عقلي”، “عندي وحيدة”.. وغيرها من الأغاني البديعة. ومن حسناته اكتشاف المطربين الكبيرين عبد الوهاب الدكالي ومحمد الغرباوي. ومن حسن الاختيار، اجتذابه لأهم المواهب والكفاءات التي برزت في الشعر كالأستاذ عبد الرفيع الجواهيري والأخ محمد الخمار والصحفي محمد جاد وغيرُهم كثيرون.
والأستاذ عبد الله شقرون هو مَن أغنى الساحة باقتراح تأسيس جوقٍ للمنوعات، وتنشيط الحركة الفنية والثقافية بحفلات دورية تحولت فيما بعد إلى سهرات أسبوعية، فكان من الطبيعي أن يجلب الانتباه إلى كفاءته، فتُسندَ إليه المهامُ تِلوَ المهامِ حتى أصبح مديرا للتلفزيون، وبعدها أمينا عاما لاتحاد الإذاعات العربية لعقدٍ من الزمن. وأثناء ولايته تلك، أذكر أنه وخلال حضوره لأحد المؤتمرات الكبرى في العراق، زارني وأنا ءانذاك مقيم في منطقة الحبانية لتصوير شريط سينمائي، وتصادف وصوله مع وصول الحماية العسكرية لنائب رئيس الجمهورية تدعوني لتلبية دعوة مستعجلة عند السيد عزت إبراهيم، وبقدرِ سعادتي العظيمة بقدوم الأستاذ عبد الله شقرون، وهو الذي تكبد عناء السفر من بغداد إلى الحبانية، كان حَرجِي عظيما أيضا أن أتركه لألبي الدعوة، ولكن المُعلم وكعهدي به دائما، أزال عني كل حرج، وجلس في جناحي ينتظرني مُؤازرا وهو الذي يفرح لنجاحات تلامذته وكأنها نجاحاته هو.
كان بودي أن تكون لي مساحة أوسع في هذه الأمسية، حتى أذكر وفاءه لحفظ كتاب الله والشرح والتفسير، وأبرز من خلالها ارتباطه بعَرُوض الفراهيدي أبي أحمد الخليل، وإخلاصه لاجتهادات سيبويه إلى حد تفضيلِ الكتابة بخط اليدِ بدل الرقن حتى تثبتَ الأفعال في أماكنها، وكي لا تُخيم عليها الجوازمُ، تعززُ بالتشكيلْ. كنت أود أن يتسع المجال حتى أتحدث عن الزوج الوفي لشريكة الحياة، المحفزة له في كل الخطوات، زميلتنا القديرة وتلميذته النجيبة أيضا السيدة جميلة بن عمرـ أمينة رشيد.
ولكن يظلُ كل مجال لخَصتُ في سطورٍ فضلَ الأستاذ عليه، هو في حقيقة الأمر محتاج إلى عشرات الصفحات إن لم أقل المئات، ولقد تخطيتُ الكثيرَ من المحطات حتى لا أكون ضيفا لا يُحقق حسن ظنِ من أوحَى باختياري لشرف الحديث عن الفتى الذي شَيَخْنَاهُ علينا وهو في عز شبابه، ولو لم نفعل ذلك، لقيل في حقنا ما جاء على لسان أحد رواد فن الملحون: “لا شيخ من لا شيخ له”.
مبروكٌ تكريمك يا شيخي.. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
• حرر بالرباط بتاريخ: 12 يوليوز 2016

شهادة بقلم: محمد حسن الجندي

Related posts

Top