مازال النقاش متواصلًا حول تطورات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بين مختلف الفاعلين بفاس، وقد سبق للجنة النموذج التنموي الجديد التي أشرفت على إنهاء تقريرها الذي ستقدمه إلى جلالة الملك أن قامت بزيارة إلى مدينة فاس في إطار الجولة التي نظمتها إلى مختلف المدن والجهات حيث استمعت إلى ممثلي المجتمع المدني، في هذا الإطار سبق لي أن كتبت هذا المقال في شهر دجنبر 2019 ولكونه مازال يحافظ على راهنيته أعيد نشره من جديد.
منذ فترة طويلة تعرف مدينة فاس نقاشا واسعا حول موضوع الاستثمار في علاقته بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، واقتناعا مني بأن النقاش يعد وسيلة أساسية لخدمة الصالح العام سأساهم بهذا المقال بعنوان: “المؤهلات الحضارية والثقافية لفاس رافعة أساسية للاستثمار” ولتقوية الاستثمار بفاس يتعين بناؤه على أربع ركائز مع إيجاد الحلول لبعض القضايا التي لها علاقة بالموضوع.
> الركيزة الأولى قطاع الثقافة:
لكون الاستثمار يعد من أهم التحديات المطروحة على الصعيد الوطني يتطلب الانطلاق من المؤهلات التي تتوفر عليها كل جهة أو مدينة من المدن المغربية تماشيا مع ما جاء به دستور فاتح يوليوز 2011، وهو ما سيساعد على تقوية الاقتصاد الوطني وتسريع وتيرة التنمية باستغلال الإمكانيات المتوفرة في كل جهة أو مدينة أو إقليم أو جماعة ترابية، وبالرجوع إلى مدينة فاس التي تتوفر على مؤهلات حضارية وثقافية كبيرة راكمتها لفترة تزيد عن 12 قرنا جعلتها تصنف تراثا عالميا إنسانيا من طرف منظمة اليونيسكو سنة 1981 مما يستدعي الانطلاق من هذه المؤهلات لحرق المراحل مع استثمار ما تم القيام به من إصلاحات بإعادة ترميم مآثرها وبناياتها التاريخية التي كانت في حاجة إلى ذلك بتوجيه ورعاية ملكية سامية، وهو ما يقتضي الضرورة الملحة لتشغيل هذه البنايات مما سيعطي دفعة قوية للوضع الاقتصادي وللاستثمار في مدينة فاس.
> الركيزة الثانية قطاع الصناعة التقليدية:
وعلاقة بما أشرنا إليه في المحور السابق فإن الصناعة التقليدية بفاس لها علاقة وطيدة بالموروث الثقافي والحضاري والتي تلعب دورا كبيرا من الناحية الاقتصادية والاجتماعية ويعمل بها 58400 من الصناع والحرفيين، ويبدو واضحا – إذا ما تجولنا بالمدينة العتيقة – أن نسبة كبيرة من أحيائها تحمل أسماء حرف الصناعة التقليدية مثل (الصفارين والفخارين والنجارين والحدادين وسوق الغزل وغيرها)، وبذلك يتضح الدور الكبير الذي تقوم به هذه الصناعة وبالتالي لا يمكن تحقيق التقدم المطلوب دون الاهتمام بهذه الصناعة وهو ما قامت به خلال المراحل السابقة إذ يعود لها الفضل في نشوء وتطور الصناعة العصرية بفاس، مما يستلزم الدعم القوي لهذا القطاع الاستراتيجي بالحفاظ على الحرف المهددة بالانقراض وعلى مناصب الشغل التي يوفرها وتقويتها.
> الركيزة الثالثة قطاع السياحة:
وما أشرنا إليه بالنسبة إلى الصناعة التقليدية فإن قطاع السياحة بفاس له علاقة بالموقع الحضاري والثقافي لهذه المدينة وما تتوفر عليه من بنايات ومعالم تاريخية بما فيها التي لها علاقة بالمجال الديني من مساجد وزوايا وأضرحة وبما هو ثقافي بشكل عام من مدارس ومتاحف، كما أن مدينة فاس تتوفر على منشآت ومواقع طبيعية داخلها وبالمناطق المحيطة بها لها إشعاع كبير على الصعيد الوطني والدولي مثل حديقة جنان السبيل وغابة عين الشقف وحامات مولاي يعقوب وسيدي حرازم وعين الله، بالإضافة إلى قربها من العديد من المناطق السياحية الأخرى مثل إيموزار وإيفران وصفرو وغيرها، وتتوفر مدينة فاس على 148 مؤسسة فندقية وتوجد بها 4750 غرفة و9532 سريرا وهو ما يتطلب بذل المزيد من الجهود من أجل تقوية هذا القطاع ليحتل المكانة التي يجب أن يكون عليها.
> الركيزة الرابعة قطاع الصناعة العصرية:
لتقوية قطاع الصناعة العصرية بفاس يجب إعطاء الاهتمام إلى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة باتخاذ ما يمكن القيام به من تدابير وإجراءات على المستوى المحلي، كما يستدعي من الجهات الحكومية أن تعمل على إحداث مؤسسات كبيرة من طرف الدولة أو من طرف الشركات الأجنبية، إذ بالرجوع إلى المراحل السابقة نجد أن جميع المؤسسات الكبيرة التي أحدثت بمدينة فاس تمت من طرف الدولة ويوجد بمدينة فاس 614 مؤسسة صناعية تشغل 27770 من المستخدمين.
وأن الاهتمام بقطاع الثقافة والصناعة التقليدية والسياحة سيعطي دفعة قوية للاستثمار بمدينة فاس، ونجدد التأكيد على أن بناءه على أربع ركائز سيمكن من السير بوتيرة سريعة تؤدي إلى تدارك الخصاص أمام التقصير الحاصل من طرف الدولة التي لم تعد تعطي لهذه المدينة ما تستحق من أهمية رغم مكانتها باعتبارها العاصمة العلمية للمملكة خلافا لما كان عليه الأمر في المراحل السابقة.
وهناك قضايا لها تأثير على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ينصب النقاش حولها منذ فترة طويلة، ومنها:
> وضعية المعامل التي أغلقت في المراحل السابقة:
منذ فترة طويلة يثار نقاش خاطئ بأن مدينة فاس تعرف أكبر عدد من المعامل التي أغلقت بسبب الإضرابات العمالية، وهذا غير صحيح يضاف إلى ذلك أنه أساء إلى الوضع الاقتصادي للمدينة علما أن المعامل التي أغلقت تعود إلى فترة سابقة بين 20 و 30 سنة وجلها من قطاع النسيج والجلد ويعود سبب ذلك إلى الأزمة التي كان يمر منها هذان القطاعان، في حين لا يتم الاهتمام بالمجهودات التي تم بذلها من طرف أرباب العمل والنقابات مما أدى إلى إنقاذ العديد من المقاولات التي كانت مهددة بالإغلاق ولا يتم الاهتمام بالمجهودات التي تقوم بها النقابات والعمال بتعاون مع أرباب العمل من أجل الدفاع عن المقاولات التي يشتغلون بها أمام تحديات المنافسة.
> وضعية القطاع التجاري:
وقد عرف هذا القطاع توسعا وتطورا كبيرا خلال السنوات الماضية داخل المدينة العتيقة ومن مختلف مناطق المدينة غير أنه يتعين المزيد من بذل الجهود بتكامل بين جميع مكوناته في علاقته مع ما أشرنا إليه سابقا حول قطاعات الثقافة والصناعة التقليدية والسياحة والصناعة العصرية وإعطاء الاهتمام بشكل كبير من أجل خلق ديناميكية قوية لهذا القطاع بالمدينة القديمة، مثل ما كان عليه الأمر في المراحل الماضية إذ كان يعرف زخما وحركة قوية حيث كان يشكل القوة الأساسية في اقتصاد المدينة وهو ما سينعكس بشكل إيجابي على الوضع الاقتصادي والاستثمار بفاس.
> وضعية قطاع النقل:
تتوفر مدينة فاس والمناطق المحيطة بها على مؤهلات كبيرة في قطاع النقل ومنها حافلات النقل الحضري وسيارات الأجرة الصغيرة والكبيرة كل هذه القطاعات مؤطرة بشكل جيد ولها ممثلوها، غير أنه يتطلب العمل على إيجاد الحلول للمشاكل التي يعرفها هذا القطاع مع الأخذ بعين الاعتبار مصلحة جميع الأطراف المكونة له وللمواطنين مع مراعاة عامل الزمن لكون هذا الوضع ظل قائما منذ مدة طويلة بالإضافة إلى تسوية وضعية المحطة الطرقية.
> وضعية الباعة المتجولين:
بعد إعادة هيكلة أسواق باب الجياف وعوينات الحجاج والإمام علي وفضاء السعادة والزهور الأول خاص بالخضر والثاني خاص بالباعة المتجولين يجب الإسراع بإعادة هيكلة جميع الأسواق الأخرى وجميع الأماكن التي يوجد بها الباعة المتجولون، مع الأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الاجتماعية لهؤلاء.
> وضعية قطاع البناء والعقار:
عرفت مدينة فاس مجهودات كبيرة خلال المراحل السابقة في إطار برنامج محاربة مدن الصفيح وفي إطار برنامج التخفيف من الكثافة وإنقاذ مدينة فاس، حيث تم تنقيل عدد كبير من المواطنين الذين كانوا يسكنون في أحياء مدن الصفيح أو بالمدينة العتيقة، وإذا ما تم القيام بجرد لما تم القيام به سنجد أن مدينة فاس تحتل موقعا متقدما مقارنة مع غيرها من المدن، غير أنه مع الأسف أن هذه الأحياء التي تم بناؤها من جديد أصبحت لا تتوفر فيها شروط السكن اللائق مما يستدعي التفكير في برنامج لتسوية هذه الوضعية، كما أن مدينة فاس تعرف عددا كبيرا من الشقق التي تم بناؤها من طرف المنعشين العقاريين مما يستدعي تكثيف الجهود من أجل إحداث رجة قوية على المستوى الاقتصادي للرفع من نسبة الإقبال على شرائها.
الخلاصة:
كل هذه القضايا التي يثار النقاش حولها من طرف الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين والمجتمع المدني، ومن فئات واسعة من السكان تدل على وجود رغبة قوية لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتقوية الاستثمار بفاس، وهو ما يستوجب تضافر جهود جميع ذوي النيات الحسنة مع التحلي بالجدية والموضوعية لتحقيق هذه الأهداف.
> بقلم: عبد الرحيم الرماح