لا شك أن العصر الرقمي يزحف بكل قوته ويتمدد في جميع الاتجاهات.
وعلى الرغم من تدني مستويات القراءة في عموم العالم العربي وتدني قطاع النشر والترجمة بالقياس لتعداد سكان العالم العربي، إلا أن العصر الرقمي يعصف بصروح الماضي ويبقيها أطلالا.
الماضي القريب، على الرغم مما أوردناه من موضوع تدني مستويات القراءة في العالم العربي، لم يمنع من ترسيخ تقاليد في المساحات التي ما تزال تقرأ وتتابع ما ينشر.
في أغلب البلاد العربية كانت هنالك قصة تروى عن صحيفة أو مجلة أو عددا من الصحف والمجلات التي رسخت تقاليدها وأسست لها جمهورها وعرف كتّابها وإذا بها اليوم تصبح أثرا بعد عين.
نعم هو واقع وشكوى كونية من زحف الرقمي على الورقي، الشاشات اللوحية وسائر الشاشات صارت بديلا لسطح القراءة الورقي.
وخلال هذه الرحلة كانت المجلات والصحف تتساقط تباعا.
فخلال عقد واحد لم يمر عام إلا وحمل خبر إقفال صحيفة أو مجلة ورقية وتحولها إلى الرقمي أو إقفالها نهائيا، ويمكننا أن نتذكر أمثلة في العالم العربي معروفة للجميع.
فإذا كانت مسيرة الرقمي الفتاكة بالورقي سوف تمضي إلى نهاياتها فلا شك أنها مسيرة سيكون ضحاياها أيقونات صحافية وثقافية ذات أثر اجتماعي وحضاري مهم ورسالة راقية ومهمة.
بالأمس تلقيت إشعارا من مدير مجلة ثقافية عربية رصينة ومتميزة ينعى فيها إقفال تلك المجلة نهائيا ويوجه الشكر لجمهور الكتاب ويطالبهم بالكف عن مراسلته لأن لا مجلة تصدر بعد اليوم.
ما يؤسف له أننا بعيدون عن استطلاع رأي أي أحد أو سماع مقترحات أي أحد في قرارات إقفال بعض الصحف والمجلات، وإنما يأتي القرار مثل عاصفة مباغتة تعصف بالمحررين والكتاب على السواء.
مهما كانت الخسارات لا تقدر بثمن، مع تفهم ظروف كل مؤسسة أو وزارة صاحبة قرار، لكن البحث عن أرباح من إصدار مجلة ثقافية أو صحيفة هو مسعى مبالغ فيه، الأرباح ليست هي غاية الغايات في المشروع الحضاري والثقافي والإنساني.
المشروع الثقافي الذي يسهم في تطوير الوعي والذائقة ويفتح الأذهان إلى الثقافات الأخرى هو أكبر من أية أرباح ومكاسب مادية، إذ يمكن للمؤسسة التي تصدر المجلة أن تستثمر في البورصة أو ما شابه إن كانت تركض وراء الأرباح لكي تعوض خسائرها.
تنمية العقل والوعي الجمعي هدف عظيم وكبير لا يعادله مال، ولهذا تحرص الدول على مشاريعها الراسخة والتي تقادم عليها الزمن وصارت علامة فارقة.
سوف نتذكر هنا صحفا ومجلات عالمية ما تزال تواصل صدورها منها سبيكتيتور 1828، ذي أتلانتيك 1857، هاربرز 1850، ذي نيشن 1865، فوغ 1892، بيلفاست نيوز ليتر 1737، ذي تايم 1785، ذي أوبزيرفر 1791. وأما خلال القرن والنصف الماضيين فسوف نتذكر مجلات مهمة منها نيويوركر، بيبول، اينكوايرير، رولينك ستون، نيوزويك، لايف، ذي أتلانتيك، فيرايتي، وتلك مجرد أمثلة من صحفة ومجلات إنجليزية وأميركية تقابلها مثيلاتها في ألمانيا وفرنسا وبلدان أخرى احتضنت تلك الولادات المبكرة وما تزال حريصة على انتظام صدورها.
في واقع الأمر، إن شركات خاصة واستثمارات شخصية في المجلات والصحف قد تجد لها بعض العذر عندما ترفع الراية البيضاء مستسلمة للإفلاس أو شبه الإفلاس بسبب تناقص العائدات والمردود التجاري وانحسار موارد الإعلانات، لكن القضية بالنسبة لدول وحكومات وهي تتفرج على موت مجلات وصحف تراقبها وهي تحتضر ثم تعلن عن مراسيم دفنها فتلك قضية تستحق النظر.
حسابات الربح والخسارة في مجال إنشاء مشاريع ذات نفع اجتماعي وثقافي وإنساني ورسالة رصينة كإصدار الصحف والمجلات لا تقارن بقيمها المادية بل بوجودها الرمزي كعلامة إشعاع حضارية يحق للبلاد أن تفخر بها باعتبارها علامة فارقة من علاماتها، وخلال ذلك هنالك صبر طويل على مشاريع متلكئة وهدر أموال غير مسيطر عليه، أما عندما يتعلق الأمر بمشروع ثقافي حضاري فسرعان ما يتم كتم أنفاس ذلك المشروع والتخلص منه. مؤسف حقا هو سماع أخبار احتضار المجلات والصحف تباعا خاصة في عالمنا العربي في وقت يحتاج فيه هذا الجيل إلى المزيد والمزيد من مصادر الإشعاع الفكري والثقافي تنتشله من التسطيح وعدم الانتماء لثقافته.
طاهر علوان كاتب عراقي