موت المخرج.. ولادة المؤلف (1)

أتيحت لنا أثناء مهرجان مراكش الأخير 2015 فرصة متابعة درس السينمائي عباس كياروستامي، وفرصة لمشاهدة مقطع من الفيلم الذي كان يشتغل عليه، وهو عبارة عن تحريك (أو تنشيط)  بالصوت والصورة لمجموعة من اللوحات المشهورة من تاريخ الفن، ربما كانت ستكون أربعين، باستعمال التقنية الرقمية. عمل يتخلى فيه عباس كياروستامي عن دوره كمخرج تقليدي ويحتفظ بدور المؤلف، أي أن الفيلم لا يوجد كسيناريو أولا (مكتوب من طرف المخرج أو من شخص آخر)، ثم كإخراج من خلال تصور إخراجي ثم تنفيذه أثناء التصوير،  لكن يوجد كتصور مندمج في نمط التعبير السينمائي، تصور مكثف يهيكل كل مراحل الفيلم وكل العمليات التقنية ومراحل الإنتاج دون أن توجد أية قطيعة بينها. بذلك يكون عباس كياروستامي قد أنجز، وهو ربما لا يعي، فيلمه الأخير الذي يقتل فيه نهائيا المخرج، التسمية التي ولدت في فترة تاريخية كان المخرج يعتبر كتقني فقط، ويعلن بذلك عن ولادة المؤلف السينمائي، وتكون سينما كياروستامي قد وصلت إلى مرحلة الاكتمال الأسلوبي والانسجام التام إلى درجة أنه في السنوات الأخيرة بدأ يبتعد عن السينما في شكلها التقليدي وبدأ يبحث عن سينما مغايرة وأنماط تعبيرية أخرى كالفن المعاصر، لأنه كان قد تجاوز خط الوصول وأن ما صنعه من أفلام إلى حدود “تين” “عشرة” شكلت ثورة سينمائية بدون شعارات، ثورة تجعل السينما تستقيل عن الفنون الأخرى كنمط تعبيري وتعيدنا في نفس الآن إلى زمن البدايات .
كان على الموجة الجديدة الفرنسية أن ترسم صورة قاتمة عن وضع السينما الفرنسية لنهاية الخمسينات، وتقتل جيل الآباء، لكي تجد لها مكانا كجيل جديد، لكنها فشلت في مواجهة ما كانت تعتبره نوعا من الرتابة التي كانت بدأت تعرفها السينما الفرنسية في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، والتي وصلت إلى حد أزمة أسلوبية وصفت بالأكاديمية على حد تعبير نقاد دفاتر السينما بزعامة فرانسوا تريفو  François Truffaut وجون لوك كودار Jean Luc Godard  . لكنها، أي الموجة الجديدة فشلت رغم أنها سافرت عبر العالم، حيث أن كل دولة وجدت لنفسها، بعد فرنسا، نسختها من الموجة الجديدة  بتسميات مختلفة.
بعد فترة من ظهور هذه الموجة، لم تتجاوز العقد من الزمان، وخصوصا بعد الثورة الطلابية لسنة 1968، عادت السينما بشكل تدريجي إلى ما قبل الموجة الفرنسية وتخلى جمهورها عنها واقتصر على حلقات صغيرة جدا من المهتمين والمثقفين. شكلت سنوات التسعينيات أي سنوات التوافقات والنظام العالمي الجديد، سنوات مرحلة الدفن الكلي لهذا المشروع خصوصا مع ظهور أصوات تدعو للعودة إلى سينما السيناريو والحبكة  الدرامية، دفاعا عن سينما شعبية (في الأصل شعبوية)، واعتبرت الموجة الجديدة نخبوية وأفلامها لا تهم إلا صانعيها، وأصبح ما يشبه اليأس يعم الساحة السينمائية. في هذا السياق التاريخي جاءت السينما الإيرانية من بعيد، سينما قطعت طريق الحرير لكي تقترح سينما أخرى، ولتنظم إلى لائحة المخرجين المعروفين، أسماء غريبة لم يكن لها إلى حدود تلك الساعات أي حضور، مثل عباس كياروستامي، محسن مخملباف وآخرون… تعرف العالم وهواة السينما بحماس أعاد نوعا من الأمل على فيلم “أين منزل صديقي” ثم   كلوز – اب “،  “من خلال شجر الزيتون”، “وتستمر الحياة”… سينما تتميز بأسلوب يوهم بأنه بسيط وسهل لكنه ممتنع، أسلوب متقشف يمزج بين الوثائقي والروائي وبلغة أدق يدمج الوثائقي، وفي حالات أخرى يدمج واقع التصوير في المتن الروائي للفيلم ليتحول هذا المزج إلى مكون بنيوي للعمل وللانسجام الداخلي له أي سينما بنفس جديد وكتابة مختلفة لكنها في نفس الآن منخرطة في تقاليد سينما المؤلف دون أن تكون نخبوية.
يتبع…

Related posts

Top